العراق والبحث عن المستقبل
وهي الكتابات التي غزت المشهد لثقافي بعد التغيير في نيسان/ ابريل 2003. ومنذ ذلك الحين ظهر كتب ودراسات كثيرة تناولت القضايا الحاضرة في الشأن العراقي، حتى يمكن أن ندعي أن مجموع ما أنتج في السنوات الخمس المنصرمة يوازي ما كتب عن الموضوعات نفسها طوال عمر الدولة العراقية.
ورغم الكتاب الذي نحن بصدد عرضه ينتمي إلى الموجة الأخيرة، فانه يمتاز عنها في سعة الموضوعات التي ناقشها، وتنوعها فطاف مؤلفوه بالقارئ على تاريخ العراق منذ الانقلاب الذي قاده صدام حسين في 17 تموز/ يوليو 1979، ليتزايد التركيز على تحليل المراحل اللاحقة والأحداث التي عصفت بالبلد. ومثلما ادعى مؤلفوه إن العراقيين «مدمنون سياسة، ونقدا، ومشاكسة في أحيان كثيرة» [المقدمة] فان الكُتاب يبدون كذلك من خلال طريقة عرضهم وتناولهم لصفحات ذلك التاريخ المضطرب.
وعلى ما يبدو أن نقطة انطلاق الكتاب وتتابع فصوله كانت لتؤكد السمة الدموية التي طبعت تاريخ البلد الذي حكم بالنار والحديد، واستباح الحكام فيه كل شيء.
من جهة أخرى ينظر الكتاب إلى المستقبل بوصفه ميدان تنافس وصراع بين قوى عديدة تباين أغراض كل منها وأهدافها للفوز بمستقبل العراق، «وكأن الجميع يصارع الجميع، وهم في ميدان كبير يشبه ميادين المجالدة الرومانية لكن حتى الجمهور عندنا مشترك في اللعبة الدموية في صراع دامٍ بين تيارات مختلفة وكل يسعى لتحقيق هدفه بوسائل متباينة من حيث شرعيتها وعقلانيتها ومقبوليتها حتى ممن يحسبون عليه. وفي وسط ذلك يبدو الشعب العراقي عالقا وسط معركة بلا أخلاق وقواعد، لا صوت فيها أعلى من صوت مفخخة تحصد بالموت المئات عند كل دوي انفجار. » [المقدمة، ص ]
إن الطواف في هذا التاريخ المضطرب وتشوف المستقبل استلزم من الباحثين تكريس جزأي الكتاب المجموعين في مجلد واحد وفصوله الثلاثة عشر لتناول الساحة السياسية كما هي (الجزء الأول)، وحدد نقطة الانطلاق عند لحظة استيلاء صدام حسين على السلطة منتصف عام 1979 ليدخل العراق في ظل حكمه نفقا مظلما، كلما سار فيه تقطعت أسباب العودة فاضطر العراقيون مجبرين إلى السير نحو المجهول علهم يبصرون ضوءً في نهاية ذلك النفق. وحتى عندما أبصروا ذلك الضوء لم يكن سوى قاطرة الاحتلال الأمريكي وهي متجهة نحوهم ! لذا فقد تناول الفصل وصول صدام إلى السلطة وتمكنه خلال زمن قياسي من إحكام قبضته على مفاصل الحكم وجعل الدولة والحزب في خدمة طموحاته. كما تناول مغامرات صدام ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، مرورا بغزو واحتلال الكويت، ثم إصراره على لعبة «توم وجيري» طوال 13 عاما، وانتهاءً بحرب الخليج الثالثة التي أتت على الدولة وجعلت المجتمع العراقي مكشوفا أمام أعدائه.
أما الفصل الثاني فقد انصرف للنظر في تصرف المعارضة العراقية التي اختارت المنفى قسرا، إلا أنها لم تتمكن من رصِّ صفوفها للإطاحة بالحكم واستبداله حتى عندما لاحت فرص كان فيها النظام في أشد حالات الضعف عام 1991. كما نظر الفصل في الممانعات الداخلية ومحاولات بعض القيادات الثورة على الحكم الجائر.
وتطرق الكتاب في الفصل الثالث لاستعدادات الحرب الأخيرة على الجانبين العراقي والأمريكي، ووقائع الحرب وما انتهت إليه. ومن اللافت للانتباه، ان القيادة العراقية فشلت وعلى نحو ذريع في فهم الخطط الأمريكية ومجمل الاستعدادات والتحركات الأمريكية التي كانت تشي بأن الأمريكيين قادمون لا محالة، فيما راهنت القيادة العراقية على تردد الإدارة الأمريكية واعتقاد تلك القيادة أن الأمر لا يعدوا الترهيب وجولة جديدة من اللعبة التي اعتادت ممارستها مع الأمريكيين.
وفي الفصلين الخامس والسادس تناول الكتاب مرحلة ما بعد الاحتلال والكيفية التي تصرف بها الأمريكيون لصياغة الدولة التي أتوا على بنيانها من القواعد. ثم الإجراءات التي اتخذها الحاكم الأمريكي السابق بول بريمر. ثم حقبة الحكم الانتقالي ومرحلة ما بعد تسلم السيادة، وصولا إلى الوقت الحاضر.
بعد ذلك يدخل الكتاب في الجزء الثاني المخصص في الأساس لاستشراف المستقبل، وعلى ما يبدو أن الكتاب سعوا إلى حصر القوى الفاعلة في تشكيل مستقبل العراق وتحليل مواقفها عبر الفصول من السابع حتى الثاني عشر، فتوزعت تلك الفصول على القوى السبعة: الشيعة، السنة، الأكراد، العلمانيون، دول الجوار، الولايات المتحدة، وتنظيم القاعدة. والكيفية التي تصوغ فيها هذه المجموعات استراتيجياتها للفوز بمستقبل العراق.
فالشيعة العرب وقد وجدوا أن التغيير الذي استتبعه الاحتلال مناسبة لتعديل أوضاعهم السياسية والثقافية. وقد عكست مشاركتهم الواسعة في الانتخابات والاستفتاء على الدستور ذلك التوق للتغيير، مع ذلك فان الساحة الشيعية تتوافر على تيارات متنوعة وأحزاب وكيانات لها رؤاها وأجنداتها للتعامل مع نتائج التغيير.
ولا يختلف الأكراد كثيرا عن الشيعة، سواء من خلال التعرض للقهر، أو محاولة اغتنام الفرصة.
أما السنة العرب فهم اليوم يعتبرون أكبر الخاسرين من عملية التغيير التي فرضت عليهم التراجع في هرم السلطة وفقدان مواقعهم التي احتفظوا بها طوال قرون. لذا فان تنوع الكيانات السياسية والدينية في المجتمع السني لا تعكس تنوع الخيارات السياسية أمامهم، وهم ما يزالون منفعلين بصدمة التغيير وبعض القناعات الخاطئة التي بنوها خلال سنوات الرخاء، لذا فان مفهومهم للمشاركة والاستحقاق السياسي يبدو أوسع من أن تستوعبه المجموعات الأخرى، وأضيق من طموحاتهم.
إذا كان لقوى الداخل ظروفها وأجنداتها في التعامل مع مستقبل العراق، فان لقوى الخارج أجنداتها أيضا، وإذا كانت القاعدة تقف في مقدمة المنافسين الخارجيين على مستقبل العراق، فان ذلك جاء نتيجة استماتتها في الفوز بهذا البلد لاتخاذه قاعدة انطلاق لنشاطاتها المناهضة للغرب.
كما أن الولايات المتحدة وقد دفعت ثمنا باهظا للاحتلال والبقاء في الميدان، فإنها ترغب في أن لا تذهب تضحياتها سدى، فهي لا تتصور عراقا بيد أعدائها، أو حتى بيد من لا تملك تأثيرا قويا عليه. لذا فإنها تصوغ إستراتيجيتها في العراق في ظل جملة من المتغيرات التي تسعى من خلالها إلى جعل العراق ساحة لمنازلة الإرهاب وحليفا استراتيجيا في المعركة الجارية كما في المعارك المحتملة لاسيما ضد من تصنفهم محورا للشر.
أما دول الجوار العراقي، فان لكل منها مشكلاته ورغباته، ومحاولاته لمد نفوذه إلى الساحة العراقية، وتتباين وسائل كل من هذه الدول ودوافعها، لكنها في الإجمال تلعب دورا سلبيا يزيد من تفاقم الأوضاع في العراق.
في تقديري إن أهم ما انطوى عليه الكتاب هو الفصل الأخير الذي صيغت فيه المشاهد المحتملة لتطور الأحداث، وهنا لعب خيال الباحثين دورا في صياغة تلك المشاهد. وهي مشاهد تجمع بين المأمول والمحذور، بين التخويف من المستقبل الموحش، والأمل بالمستقبل الأمن.
تناول المشهد الأول مسارات الأحداث كما هي متجهة في وقت إعداد الكتاب، ويستشرف المشهد بأنها ستضع البلد في أزمة سياسية حادة نتيجة تزايد حدة النزاعات بين الكتل السياسية داخل الحكومة وانسحاب قوى أساسية في الحكومة ومجلس النواب.
وتناول المشهد الثاني الذي يمتد بالتداعيات التي ينطوي عليها المشهد الأول إلى أفق الاضطراب الشامل وتدهور العملية السياسية حتى انهيارها، ويناقش احتمالات تقسيم البلد إلى دولتين أو ثلاث دول ويعرض الخيارات المتاحة أمام القوى السياسية والدينية والاجتماعية إزاء عملية التقسيم. لذا فهو المشهد الاكثر ارعابا، والذي يحذر الكتاب من الانزلاق فيه.
أما المشهد الثالث فهو مشهد إصلاحي يقوم على افتراضات تشخص التوق العام للإصلاح والتغيير الايجابي ووجود رغبة حقيقية لدى جميع الفرقاء السياسيين من إخراج البلد من أزمته. ويرسم عناصر للإصلاح التي وجد المؤلفون أنها ضرورية لإصلاح العملية السياسية أملا في التعامل الايجابي مع الأزمة السياسية التي ضربت البلد والتي تقوم على ترسيخ أسس الديمقراطية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة التفكير في خلق مشروع وطني جامع، ومحاولة وضع الحلول للمشكلات السياسية العالقة كقضية النفط والمليشيات واجتثاث البعث.