المادة 58 من قانون موازنة العراق الاتحادية 2019 ومنطق إدارة الدولة

د. حسن لطيف كاظم
تعد الموازنة العامة للدولة أداة سياسية ومالية جوهرية في انفاذ السياسات العامة للحكومة، لذا فقد اجتهد في ضبط قواعدها فقهاء القانون والمالية العامة والاقتصاديون، ووضعوا في سبيل ذلك جملة من القواعد والاسس التقليدية والحديثة عند الاعداد والتنفيذ والرقابة، تستجيب لأفضل الخبرات التي عرفتها النظم السياسية في العالم.
غير ان هناك بعضا من القواعد مقرة عرفا، ومنها مبدأ “عدم تضمين الموازنة بنود لا علاقة لها بالظواهر المالية العامة” حتى لا تخرج الموازنة عن طبيعتها الى مضامين غير التي وجدت من أجلها. ومن النادر ان نجد حكومة أو سلطة تشريعية تضعان نصوصا قانونية لا ترتبط بالمالية العامة والسياسة المالية. الا ان المشرع العراقي قد خرق هذا المبدأ في أكثر من مناسبة، فقط تضمنت موازنات العراق موادا سياسة وإدارية لا تمت للظاهرة المالية التي تعالجها الموازنة بشكل مباشر. (مثل بعض مواد موازنتي 2018 و2019 التي تضمنها الفصل الثالث/ الاحكام الختامية التي جاءت مطولة وتشمل مواضيع متنوعة، وفي 59 مادة من قانون موازنة 2018، و 68 مادة من موازنة 2019).
ولعلنا في هذا المقال لن نستعرض صور خرق هذا المبدأ عبر الموازنات المختلفة، الا أننا سنركز على المادة 58 من قانون الموازنة الاتحادية لعام 2019 بوصفه انموذجا ونحلل تداعياته ونتائجه السلبية.
نصت المادة 58 من القانون على “تلتزم الحكومة بأنهاء ادارة مؤسسات الدولة بالوكالة ماعدا الاجهزة الأمنية والعسكرية في موعد أقصاه 30/6/2019 ويعد اي اجراء بعد هذا التاريخ يقوم به المعين بالوكالة باطلا ولا يترتب اي أثر قانوني على ان تقوم الدائرة المعنية بإيقاف جميع المخصصات المالية والصلاحيات الادارية في حالة استمرارها بعد التاريخ المذكور اعلاه“. وقد ظهرت هذه المادة في النسخة النهائية من القانون، ولم تكن موجودة في المسودة الأولى والثانية اللتان قدمتهما الحكومة، ولم تكن من ضمن ملاحظات اللجنة المالية عليهما. لكنها وردت أيضا بالصيغة نفسها في تعليمات تنفيذ الموازنة من دون شرح او توضيح في القسم الثالث (الملاكات).
من الواضح ان هذه المادة لا تمت الى المالية العامة بصلة مباشرة، وحتى وان قيل ان الإشارة الى التخصيصات يمكن ان يكون له تبعات مالية، الا ان المضمون المقصود منها هو أبعد ما يكون عن معالجة هذا الجانب من موضوعة “إدارة مؤسسات الدولة بالوكالة” وهو ملف تنامى مع استمرار تفضيل الوزراء عدم تكليف المدراء العامين والوكلاء بشكل دائم عبر الذهاب الى مجلس الوزراء وإنجاز أوامر التثبيت؛ لذا يجري الحديث عن حوالي خمسة الاف مدير عام ووكيل وزارة ورئيس هيأة (على وفق تقديرنا) لم تصدر أوامر ديوانية بتكليفهم، ويؤدون أعمالهم بالوكالة. مع ملاحظة أن المادة 58 لا تشير الى حجم هذه الفئة، لكن يمكن الوصول الى رقم تقريبي من خلال معرفة ان الدرجة الوظيفية التي ان تشغل مثل هذه المناصب تقع ضمن الدرجتين العليا (أ) و (ب)، وبحسب قانون الموازنة فان هناك 539 درجة وظيفية ضمن العليا (أ)، و 4769 درجة وظيفية ضمن العليا (ب)، وهو ما يعني 5308 درجة، وهذا الرقم يؤشر الحجم العام للشريحة العليا من الإدارة العامة للدولة العراقية، والتي يفترض بها ان تسهم في عملية صناعة السياسات العامة وتنفيذها والرقابة عليها، كل بحسب موقعه ومهامه.
وضعت المادة 58 سقفا زمنيا لإنهاء هذا الملف، هو 30 حزيران الجاري، أي انها منحت الحكومة 4 أشهر و 17 يوما، وهو ما يعني أن على الحكومة أن تعمل على احداث 53 تغييرا كل يوم، وان تصدر أوامر ديوانية بهذه التكليفات (على أساس ان أيام العمل الفعلية تبلغ 100 يوم). وقطعا هذا الامر لم يتم ومع تناقص المدة تتزايد اعداد المناصب المراد اشغالها بالأصلاء بدل الوكلاء.
لكن ما أهمية هذا الاجل (30 حزيران)، لأنه وبحسب ما نصت عليه المادة فان “اي اجراء بعد هذا التاريخ يقوم به المعين بالوكالة باطلا ولا يترتب اي أثر قانوني“. ومن الواضح ان المعينين بالوكالة بعد هذا التاريخ لن يكون بإمكانهم ممارسة صلاحياتهم الإدارية التقليدية والاستثنائية أو حتى تلك المخولين بها. وهذا ما يعني احداث فراغ اداري كبير نتيجة اختفاء تلك الصلاحيات فكيف سيتم صرف الرواتب وإنجاز الاعمال الروتينية للدوائر التي سيكون رأسها منزوع الصلاحيات.
ولا يقف الامر عند هذا الحد بل نصت أيضا على “ان تقوم الدائرة المعنية بإيقاف جميع المخصصات المالية والصلاحيات الادارية في حالة استمرارها بعد التاريخ المذكور اعلاه“. ولعلنا مع هذا النص ننشغل بالشق الأول (إيقاف صرف المخصصات المالية)، والتي في الحقيقة لا وجود لها، طالما ان المعين بالوكالة، اذ لا يستحق جميع هؤلاء اية مخصصات او حتى الامتيازات “السيادية” اما بسبب اعمامات وزارة المالية وديوان الرقابة المالية التي لا تجيز صرف المخصصات، وأما ما أقصده بالامتيازات السيادية، فهي مجموعة من “الامتيازات” التي تكون متاحة للمكلف بمنصب مثل “جواز الخدمة الدبلوماسية” و “إجازة حمل السلاح وحيازته” وغيرها، والتي تشترط التعليمات ان يكون المكلف بالأصالة وليس بالوكالة فضلا عن الشروط الخاصة بمنحها، لذا فمن النادر ان نجد من هؤلاء من يحصل على مثل هذه الامتيازات.
لكن ما ينبغي الالتفات اليه في نص المادة المتقدم ان الإيقاف يشمل جميع “الصلاحيات الإدارية في حالة استمرارها بعد التاريخ المذكور” أي ان على الإدارات المعنية اصدار أوامر بسحب الصلاحيات الإدارية لغير الاصلاء جميعا. وفي هذا توكيد على امر نزع الصلاحيات وحالة مسؤولي الدولة العراقية صبيحة الأول من تموز من هذا العام.
وإذا انتقلنا لتحديد نطاق المسؤوليات عن هذه المادة من الواضح انها تنحصر في جهتين:
- الأولى هي الحكومة التي الزمتها المادة بانها هذا الوضع.
- الثانية هي “الدوائر المعنية” التي ينبغي عليها إيقاف المخصصات والصلاحيات اعتبارا من 1 تموز.
وحتى مع اهمال الغموض الذي ينطوي عليه ما أسمته المادة “الدوائر المعنية” فان إيجاد غير جهات انتساب المسؤولين لا يقدم حلا للمعضلة، لان مهمة هذه الدوائر تنحصر في “إيقاف” المخصصات والصلاحيات، وليست معنية بحل الوضع القائم قبل 30 حزيران أو معالجة ما سينشأ بعده. ولكن كيف يمكن للإدارة المعنية ان توقف الصلاحيات، وهو ما يعني في حقيقته “اعفاءً من المنصب” وهو امر لا يمكن حدوثه، لان من يكلف أو يعفي هو الجهة الأعلى، وفي اغلب هذه الحالات هي الوزارة، وكان على المادة أن تكون “الوزارات المعنية” وليس الدوائر المعنية.
أخيرا كيف يمكن أن نتصور الحل؟
بحسب المعطيات امام الحكومة عدد من السيناريوهات “الممكنة” نظريا أو عمليا:
- السيناريو الأول: ان تجتهد الحكومة فيما تبقى من هذه المدة في تكليف المسؤولين، سواء بشكل كامل، أو بشكل انتقائي بما يمنع شلل مؤسساتها بعد 30 حزيران وهذا السيناريو يبدو ضعيف الاحتمال في التحقق على وفق تعامل الحكومة السابق مع الملف.
- السيناريو الثاني: ان تلجأ الى مجلس النواب لإيقاف العمل بالمادة أو تأخير سريانها حتى 31 كانون الأول من هذا العام. وهنا تبدو المقاربة الثانية أكثر يسرا وقبولا لدى الكتل السياسية.
- السيناريو الثالث: اللجوء الى المحكمة الاتحادية للبت في دستورية المادة، أو إيجاد مخرج قانوني للأوضاع التي تنشئها بعد 30 حزيران.
- السيناريو الرابع: ان تقوم الحكومة، أو الأمانة العامة، بإصدار قرار تمنح رؤساء الدوائر المعنية صلاحيات الاستمرار بالعمل، وعلى الرغم من ان هذا الاعمام ان صدر لا يملك قوة قانون الموازنة، الا ان الإدارات المعنية قد تجد فيه مخرجا في مواجهة الأوضاع الاستثنائية، وبابا يسمح لها بتأمين استمرار الاعمال في الدوائر التي يصيبها الشلل بفعل سريان مفعول المادة 58.
قطعا ان اللجوء الى أي من هذه المقاربات سيتطلب جهودا وإجراءات خاصة، ومن غير المتصور، على وفق المعطيات ان تستطيع الحكومة ان تحقق السيناريو الأول، لذا فان الخيار الاسهل هو اعتماد السيناريو الثاني، ولكن ينبغي ان يكون ذلك قبل التاريخ المذكور.
النجف الاشرف (11 حزيران 2019)
اطلع على المقال في شبكة الاقتصاديين العراقيين:
د. حسن لطيف كاظم: المادة 58 من قانون موازنة العراق الاتحادية 2019 ومنطق إدارة الدولة