احتجاجات قوية… وعود ضعيفة الاقتصاد السياسي لانتفاضة الشباب في العراق 2019

منذ 5 سنوات
21896

احتجاجات قوية… وعود ضعيفة الاقتصاد السياسي لانتفاضة الشباب في العراق 2019

د. حسن لطيف كاظم

 

في اول تشرين الأول (أكتوبر) من هذا العام شهدت بعض محافظات جنوب العراق ووسطه احتجاجات شبابية عارمة، عبر خلالها المحتجون عن مطالب معقولة بالإصلاح ومواجهة الفساد وتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات، وباختصار، انهم يطلبون حياة كريمة تستوعب الحد الأدنى من تطلعاتهم وحقوقهم الأساسية.

وهي المرة الأولى منذ عام 1958 التي تخرج فيها مظاهرات من دون ان تدعو اليها جهة حزبية او حكومية أو دينية، وأغلب المتظاهرين هم من الشباب الذين عاشوا في كنف النظام الديمقراطي الجديد، ولم يختبروا سنوات الاستبداد والدكتاتورية، الا انهم تحملوا صدمة الاحتلال وتبعاته، وتداعياته، فضلا عن نتائج صدمة المعلوماتية وثورة الاتصالات وتيارات التواصل الاجتماعي، فهم جيل نشأ “غريبا” في مجتمعه، “مُنبتّا” عن جذوره المفرطة في “التقليدية”، لا يعرف عن تاريخه الا ما جادت به مواقع التواصل الاجتماعي، وثقافتها الموجزة، ومقارناته عبر جغرافية العالم اجمع، والرغبة في التماهي مع الثقافات المتفوقة.

كانت المحافظات الأكثر فقرا وبطالة وحرمانا هي المحافظات المحتجة، اذ كانت هذه المحافظات قد عرفت معدلات البطالة الأعلى، ففي محافظات الجنوب: ميسان، المثنى، القادسية، البصرة، وذي قار، توجد اعلى معدلات الفقر بحسب التقديرات الرسمية التي صدرت عن وزارة التخطيط منذ عام 2008، اذ وصل الفقر فيها الى 34.6% عام 2007، انخفض على نحو طفيف الى 33.6% عام 2012، والى 31.1% عام 2018، وهو معدل اعلى من المحافظات التي تعرضت للإرهاب التي بلغت نسبة الفقر فيها عام 2018 حوالي 27.5%، وجل ما تحقق خلال هذه السنوات هو إعادة توزيع الفقر باتجاه تقارب النسب المرتفعة، اذ ان ارتفاع نسبة الفقر في المحافظات التي تعرضت لإرهاب داعش بأكثر من خمس نقاط مئوية منذ عام 2012.

وبالنسبة للبطالة فان محافظات الجنوب تزيد فيها معدلات البطالة عن 10%، ونجد ميسان الأعلى بطالة عام 2016 (حوالي 17.06%)، وفي ذي قار والمثنى تقترب النسبة من 15%، وفي البصرة تتجاوز نسبة البطالة 12%، وتقترب من هذا الرقم الأخير في القادسية.

أما بغداد، فان فيها حوالي نصف عدد الفقراء، وتبلغ نسبة البطالة فيها 9.8%، وقد تحملت خلال السنوات الماضية اغلب أعباء الإرهاب، اذ تشير البيانات التي صنفها كاتب هذه السطور الى حصول 7591 عملية إرهابية فيها، أي ان كل كيلو متر مربع منها قد شهد عمليتين ارهابيتين خلال المدة 2003-2017، الامر الذي فرض تضحيات كبيرة تحملها الناس في بغداد.

وهنا لن نحتاج المزيد من البيانات للبرهنة على الأوضاع المعيشية في هذه المحافظات، والأسباب الاقتصادية التي دفعت الشباب الى التظاهر للمطالبة بحقوقهم. ومن الواضح ان هذه الأسباب تقف في المقدمة من دواعي خروجهم، يضاف اليها تزايد الفساد والتراجع الحاد في الحكم الرشيد في المجتمع، اذ تحولت ساحات كرة القدم والفضاءات القريبة من مناطق سكناهم التي كانوا يمارسون الرياضة فيها الى مشروعات استثمارية لمتنفذين في محافظاتهم في تحول جديد باتجاه “الفساد الاستثماري” أي الفساد الذي تحصل من خلاله بعض الأحزاب والشخصيات المتنفذة على مشروعات استثمارية تجارية في الغالب، فتشيد محلات تجارية او مراكز ترفيه، تدر ريعا للجهات الراعية لها. فضلا عن استشراء الفساد في المؤسسات الحكومية، وتزايد معدلات تلقي الرشى كما تؤشره المقاييس الدولية الخاصة بالعراق.

في الوقت نفسه، فان أداء الحكومة قد تدنى من حيث الكفاءة والجودة، وتحولت الدولة الى موزع كبير للرواتب، لفئات تقع خارج العملية الاقتصادية، وتزايدت ظاهرة ازدوج الراتب لكثير من الفئات، وترسيخ التمييز الفئوي للفئات الصاعدة في التعيين والدراسة وغيرها، والتي صيغت في قوانين وتعليمات تتعرض مع الدستور ومبدأ تكافؤ الفرص والمساواة امام القانون، وكل تلك الامتيازات تثير حفيظة الشباب الذين لا يمكنهم المقارنة بين تضحياتهم الناتجة عن ظروفهم الشخصية والمجتمعية، وتضحيات الفئات المنتفعة من التغيير؛ وذلك لأنهم لم يعايشوا واقع تلك الفئات ولم يختبروا العيش في ظل النظام المباد. وفي استبيان الكتروني اجري لرصد توجها الناس بشأن الهدف العاشر من أهداف التنمية المستدامة حول الرضا عن الخدمات العامة المقدمة من قبل الحكومة. احتلت محافظات إقليم كردستان الثلاث (أربيل، والسليمانية ودهوك) الصدارة من حيث مستوى الرضا عن ‏أداء ‏الحكومة فيها والخدمات المقدمة إليهم، فيما كانت القادسية وذي قار وبغداد أقل ‏‏المحافظات التي عبر فيها المستجيبون عن رضاهم عن الخدمات العامة المقدمة إليهم.‏ وهذا امر فيه دلالة مهمة لتصورات الشباب بشأن الحكومة.

لم يكن مفاجئا ان تعاطي الحكومة مع التظاهرات جاء بهزالة أدائها الاقتصادي، الا ان ما فاجأ الجمهور أكثر هو خطاب رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي لم يكن بمستوى الحدث، بل لم يكن بمستوى المسؤولية، فعلى مستوى الحلول التي طرحها الرجل فإنها لم تكن تتضمن تعاطيا ابداعيا مع حقائق علمية جديدة، ولم تقدم رؤية معرفية لتلك الحقائق، وجل ما وعد به هو تقديم قطع أراضي مجانية، ورواتب للأسر التي لا تملك دخلا، في توكيد لنهج حكومته السائرة على نهج السابقين، وأبعد من كانت بعيدة عن مطالب الناس وتوقعاتهم من رئيس وزرائهم.

ذكر رئيس الوزراء ببرنامج حكومته، ووصفه بانه واقعي، الا ان الدلائل بشأن برنامج الحكومة تشير الى ابتعاده عن الواقعية، وبخاصة وأنه تضمن عشرات الأهداف التي يصعب متابعتها والتوكد من انجاز الحكومة فيها، فضلا عن صعوبة دمجها في الأطر السياسية والمالية للحكومة، اذ فشلت الحكومة في دمجها في الموازنة العامة، لذا تشير التسريبات بشأن الموازنة أنها ستضم بابا جديدا يخص البرنامج الحكومي.

كنا نأمل من السيد رئيس الوزراء ان يعيد تعريف موقعه التوفيقي بين القوى السياسية المتنافسة، وان يغتنم الفرصة التاريخية في نيل تفويض جماهيري بالإصلاح واتخاذ زمام المبادرة، بدلا من إعادة التوسل بالقوى السياسية أن تسمح له باستكمال كابينته الوزارية. وكان من الممكن أن يطرح بدائل إصلاحية جدية تسمح له بالحركة بأوسع مما رسمته له القوى المسيطرة على المشهد السياسي.

لكن كيف يمكن مواجهة تداعيات هذه الازمة؟ مع محدودية الفرص المتاحة امام رئيس الوزراء لإجراء تغيير جذري في حكومته، نرى ضرورة إعادة هيكلة حكومته، وترشيقها وزيادة كفاءتها، وبخاصة الوزارات السيادية، التي يكمن فيها مفاتيح التغيير، وبخاصة وزارات المالية والتخطيط والعمل والشؤون الاجتماعية، فضلا عن هيأة الاستثمار الوطنية.

تكمن أهمية وزارة المالية، في أنها كانت خلف الأداء السيء للحكومة، فالسياسة المالية الغامضة، وغير المستجيبة للواقع، يجعلها الوزارة الأكثر أهمية في التغيير، بحيث ينبغي إعادة تعريف دورها، وتحسين اليات عملها، وتبني تقنيات جديدة في العمل المالي، بما يمهد لثورة في المالية العامة، واليات اعداد الموازنة وتنفيذها، وتحديد أولوياتها. هذا الامر يتطلب ان يكون على رأس الوزارة فريق بصلاحيات مناسبة، يكون رئيسهم عبد المهدي نفسه، ووكيلي الوزارة وخبيرين اخرين، وأقول خبيرين حقيقين، سواء كانوا عراقيين أم غير عراقيين، يقدمون النصح ويتحملون القرارات التي تصدرها الوزارة.

من جهة أخرى، على الحكومة أن تتخذ إجراءات عملية لنقض القوانين التمييزية أمام المحكمة الاتحادية، والتمهيد لوقف الامتيازات الممنوحة لفئات وشرائح على نحو غير مبرر. فضلا عن أولوية القيام بتحسين مؤشرات الحكم الرشيد والشفافية والقيام بإنفاذ القانون والدستور.

التصنيفات : المقالات
استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان