الاقتصاد العراقي في مهب الحكومة

الاقتصاد العراقي في مهب الحكومة
د. حسن لطيف كاظم
يستعر الجدل هذه الأيام حول تشكيل الحكومة العراقية، واختيار الوزراء، ولعل المتابع الحصيف قدر رصد ما لا يقل عن عشرة قوائم لتشكيلة حكومية مزعومة، كل بحسب هوى واضعها، وربما بما يحلم أن تكون. ويمكن أن تشخص من خلال تلك القوائم النزعة المحاصصاتية التي ما تزال سائدة في منطق السياسة العراقية على الرغم من وصول الأمور الى الازمة على مستوى النظام السياسي نفسه، وبما يهدد وجوده، والاسس التي بني عليها منذ عام 2003، وهو أمر لم يذعن له السياسيون، ولم تقم له النخبة السياسية وزنا في حساباتها.
تجليات الازمة
ان النظام المحاصصاتي بصيغته التي سادت منذ الاحتلال الأمريكي وصل الى الازمة في أكثر من مناسبة، الا ان شدة الازمة وعمقها قد تطور بمرور الزمن، الا ان الازمات الثلاث الأخيرة كانت أكثر عمقا، ونقصد بها أزمة الاحتجاجات السنية ابان حكومة المالكي الثانية، والتي انتهت باستخدام العنف لفض الاعتصامات، والثانية في ربيع عام 2016 عندما حصل العبادي على فرصة إعادة صياغة الحكومة على أسس تبتعد قليلا عن المحاصصاتية، والثالثة هي التي ما نزال نشهد تجلياتها وتداعياتها منذ تفجر الأوضاع في البصرة وبعض المحافظات.
لقد فشل النظام السياسي في هذه الاختبارات في انتاج حلول مقنعة للرأي العام، واجتذاب المؤيدين للنظام الديمقراطي المتعثر الذي ما يزال من نشوئه يتوسل الشرعية في الداخل والخارج، ومن مظاهر ذلك الفشل المشاركة المتدنية في الانتخابات التي كشفت نأي المجتمع عن النخبة الحاكمة، وفرضها “الزعل” السياسي عن طريق عدم المشاركة بوصفها واحدة من صور الاحتجاج والرفض لما قدمته النخبة التي حكمت البلد بشكل مباشر منذ تسليم السيادة منتصف 2004.
من سقوط الموصل الى سقوط الاقتصاد
قد لا اجازف بالقول إننا اليوم نعيش تجليات ازمة اقتصادية، بل هي أزمة مشروع التنمية الوطني، ووصوله الى نقطة الانهيار، ومثلما شهدنا سقوط الموصل بعد ازمة النظام السياسي، فإننا نشهد اليوم انهيارا للاقتصاد المحلي تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة وغياب التفضيل الوطني للقرارات.
ما يزال العراق منذ صدور مؤشر مدركات الفساد العالمي يحتل المراتب الأولى بين الدول الأكثر فسادا (المرتبة 18 عام 2018)، وهي المكانة نفسها التي يحتلها في المؤشرات المركبة الأخرى التي تقيس الأداء التنموي لبلدان العالم مثل مؤشر الدول الهشة (المرتبة 11 عام 2018)، وعليه فلا غرابة أن يكون العراق بين أسوأ البلدان من حيث أداء الاعمال (المرتبة 168 عام 2017)، وهو مؤشر يرتبط بإطلاق المشروعات الجديدة وفرص المشاريع الكبيرة والصغيرة التي تقام في بلدان العالم المختلفة.
ومع دولة تعاني من الفساد والمحاصصاتية، وهيمنة الأحزاب على مؤسساتها، حد اختطاف بعض الوزارات لمصالح أضيق من مستوى طائفي، أو مناطقي، فقد جيرت إمكانات وزارات بأكملها لتخدم الحزب المهيمن عليها، ونشأ نوع من التحالف بين الديمقراطية المحاصصاتية وتوزيع الريع على أحزاب السلطة، واستخدام تلك الأموال من اجل تقوية الأحزاب بدلا من الانفاق الاجتماعي والاستثماري النوعي الذي يعزز ممكنات التقدم والتنمية؛ وفي اثناء ذلك ضاعت ما اطلق عليه “فرص التفضيل للقرارات” فأصبحت القرارات التي تتخذ عند المستويات العليا لا تراعي المصلحة الوطنية، وان تلبست بلبوس زائف، وادعت ذلك، ومثلما كان اهمال وزارتي الدفاع والداخلية ما قبل سقوط الموصل يمثل أقصى صور الإهمال الحكومي للملف الأمني، فان اهمال وزارة المالية خلال السنوات الست الماضية وتركها أغلب المدة من دون وزير جعل أداء هذه الوزارة الأسوأ بين الوزارات العراقية، مع انها أصبحت تستتبع الوزارات الأخرى لها، من خلال منح التمويل وتخفيضه، وكثيرا ما كانت تلك الإجراءات التي انتهجتها وزارة المالية السبب وراء تفاقم الوضع الخدمي للوزارات الخدمية التي لا تملك قدرة على تمويل أنشطتها من خارج الموازنة العامة.
ففي بداية العام 2018 فرضت المالية تمويلا اقل للفصل الخاص بتعويضات الموظفين في اغلب الوزارات، وحتى أنها جادلت هيأة التقاعد الوطنية بتمويل أقل من استحقاقات الرواتب التي تدفعها الهيأة، وخلال السنوات الثلاث التي سبقة هذا العام، لم توفر الوزارة سوى تعويضات الموظفين من الموازنة التشغيلية، ولم تقدم للوزارات الخدمية أي تمويل للإنفاق على السلع والخدمات، فضلا عن إيقاف صرف الموازنة الاستثمارية. ان كل ذلك أثر على نحو فادح على جودة الخدمات التي تقدمها الحكومة وفاقم من أوضاعها حقيقة أن تلك المؤسسات جميعا تعاني من مستوى ما من الفساد الإداري والمالي، لذا فان ما يتبقى من موارد لتأمين عمل تلك المؤسسات أصبح يتضاءل شيئا فشيئا، حتى أننا بتنا نسمع أن حل ازمة المياه في البصرة لم يتطلب مليارات الدنانير، بل بضعة ملايين لشراء بعض الفلاتر والصرف على تشغيل المحطات المتوقفة.
ان التراجع المستمر في الاقتصاد يقدم شواهد على انهيار كارثي ان استمرت سياسة الحكومة على السيرة السابقة، فالاقتصاد عاجز تماما عن توليد فرص عمل باي وصف لجموع العاطلين والوافدين الجدد الى سوق العمل سواء من الذين يبلغون سن العمل او خريجي المؤسسات التعليمية، وفي الوقت الذي لا تقدم وزارة المالية أي حقن مالي للاقتصاد لتحريك عجلته المتصدئة، فإنها تستمر في تعظيم مواردها من غير النفط، اذ ولأول مرة منذ منتصف التسعينات تحقق الإيرادات الأخرى نسبة تفوق العشرة في المائة في الموازنة الاتحادية بحسب بيانات وزارة المالية.
وفي بلد تعمل مؤسساته على نحو منفصل، لم تعد هناك سياسات علمية توضع على أسس علمية، وتستهدف التأثير في أحوال المواطنين وتتماهى مع تفضيلاتهم، ولم هناك وضوح لما يريده قادة البلد وما يريدون تحقيقه في الميادين المختلفة ومنها الميدان الاقتصادي. لا تتعاون السياسة المالية والنقدية بل تتعارضان على نحو لافت، فخلال خمسة عشر عاما من اعتماد سياسة الصرف الثابتة، والدفاع عن سعر مرتفع للدينار العراقي لم تتحقق الأهداف “المقدسة” لهذه السياسة التي تتمحور حول اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر، بل ان تلك السياسة أسهمت من دون قصد في تعزيز النهب الذي يمارسه المفسدون لثروة العراق، من خلال تيسير نقل الحصول على الأموال مرتفعة القيمة نحو ملاذات خارج البلد، وبذلك تحطمت اسطورة ان العراق يمكن أن ينشئ رأسمالية تعمل فيما بعد على ترسيخ الديمقراطية وتعزيز حقوق الملكية طمعا في تحصين أموالها واستثماراتها الناشئة.
هل من افق للحل؟
من السهل الايصاء بأولوية الابتعاد عن المحاصصاتية ومحاربة الفساد وغيرها من التوصيات التي يبدو الجميع محقا بفرضها، الا أن النظام السياسي يبدو عاجزا عن الانقلاب على نفسه بهذه الصورة، وقد تعلق الامر بالاقتصاد فانه ينبغي إعادة هيكلة المؤسسات المعنية به، وفي مقدمتها وزارتي المالية والتخطيط، وأيضا البنك المركزي العراقي، وتحييد دور الأحزاب عليها، من خلال إخراجها عن اطار المحاصصة السياسية، واخضاعها للاختيار الحر لرئيس الوزراء، والرقابة المباشرة من مجلس النواب، بحيث لا يفرض على ادارتها أي شخصية حزبية، واختيار وزراء تكنوقراط بالمعنى الحرفي للكلمة.
لقد ثبت أن التنمية الاقتصادية تكبح المطالب السياسية للتخلص من الفقر والظلم الاجتماعي، لأنها تقدم الامل بالتغيير نحو الأفضل، وتمنح المحرومين نصيبهم الذي طالما انتظروه.
اطلع على المقال في شبكة الاقتصاديين العراقين