الدولة والتنمية في الوطن العربي

ينبغي الإشارة ابتداءً إلى ثلاث ملاحظات هامة: الأولى تتعلق بعنوان الكتاب (( الدولة والتنمية في الوطن العربي: محاولة لاستباق التغير العالمي في ظل منهجية التحليل المستقبلي)) والذي قد يوحي بان هناك كيانا اسمه الوطن العربي وأن له دولته، إلا أن الحقيقة هي أن التجزئة كانت الطابع الغالب على الأقطار العربية منذ مطلع القرن الماضي، وكانت الدولة القطرية التي تباينت وقائع ولادتها وسيرورة تطورها هي المحرك الأساسي للعديد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وأثبتت تلك الدولة قدرة فائقة على البقاء على رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها في العقود الماضية، بل عززت قطريتها ونأت كثيرا عن طريق الوحدة. كما إن العنوان ينطوي على تحديد مستقبلي كان الشغل الشاغل للدراسة أملا في المشاركة في إستشراف مستقبل الوطن العربي وقدرة الدولة على تحقيق التنمية وإبراز أهم العوامل المؤثرة في هذا المستقبل. الملاحظة الثانية: إن ظاهرة الدولة ليست اقتصادية بحتة، بل تنطوي على أبعاد أخرى سياسية واجتماعية وثقافية وأيديولوجية، ومن وجهة نظرنا، إن إخضاع الدولة للبحث الاقتصادي أمر ضروري يمكنه أن يُسهم في فحص وتحليل جوانب مهمة من العلاقة التي ما تزال غامضة بين الدولة والمجتمع المدني والاقتصاد ومن ثمّ دورها في تحقيق التنمية بأبعادها المختلفة. لقد دخلت الدولة نطاق العلوم الاجتماعية من أوسع أبوابها، لكنها نفذت إلى التحليل من أضيقها، وهو ما قد يرجع إلى تقسيم العمل بين العلوم الاجتماعية وتطور الفكر الخاص بكل منها. لهذا جرى إدراجها ضمن العلم السياسي ولم يكن لعِلمي الاقتصاد والاجتماع إلا مقاربة هذا المفهوم ومسه من بعيد، ثم أتى تطور العلوم في غير صالح الاهتمام بموضوع الدولة، وبالنسبة للسياسة فعلى الرغم من أنها كانت المعنية بموضوعة الدولة إلا أنها صرفت مجهوداتها على تحليل العلاقات الدولية ومفاهيم السيادة والاستقلال وغيرها التي تشرح تصرف الدولة وتتجاهل قضية النفاذ في أعماقها وتشريحها. فعلى الرغم من أن الأصل في الاجتماع هو الاجتماع السياسي إلا انه نأى عن دراسة الدولة لمناقشة قضايا باتت تشكل صلب تحليله الذي ابتعد على نحو لافت عن الطبيعة السياسية ليكتسب صفة سوسيولوجية تكاد تكون صرفة. أما علم الاقتصاد فهو الآخر ابتدأ سياسيا إلا انه ابتعد كثيرا عن الصفة الاجتماعية للعلم ليغدو علماً تطبيقياً على يد رواد المدرسة التقليدية المحدثة مبتعدا في ذلك عن مناقشة القضايا المجتمعية والسياسية، وعاقداً العزم على استخدامهما كأدوات تحليلية لصالح غلبة التحليل الكمي والرياضي بدل التحليل الوصفي الاجتماعي والسياسي. لهذا كله ظل مفهوم الدولة قاصرا في التحليل والتأصيل النظري، وان عاد إلى دائرة الاهتمام مؤخرا.
إن الباحث في كل من الاقتصاد والاجتماع والسياسة يدرك فقر المفهوم على رغم تعطشه للتنظير وعلى كثرة ما كتب فيه منذ أفلاطون وأرسطو حتى وقتنا الحاضر، ويفسر جانبا من قضية غياب نظرية مقبولة وشاملة وصالحة للتطبيق عن الدولة. عليه فإن مساهمة الاقتصادي تبقى ضرورية لكونه يستطيع أن يخضع مفهوم الدولة لأدوات التحليل والوسائل النظرية المتطورة في علم الاقتصاد. فاستخدام التقنيات (التكنيكات) الاقتصادية يمكن أن يلقي ضوءا على فكرة الدولة. فضلا عما دفعت إليه التطورات الاقتصادية في العالم بما اثر في مفهوم الدولة وعلاقتها بالفرد والمجتمع والاقتصاد، في الداخل والخارج. أما الملاحظة الثالثة: فهي أنه خلال إعداد هذه الدراسة قد حصلت كثيرٌ من التطورات على المستويات الدولية والإقليمية والقطرية، أبرزها تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، والغزو الأمريكي للعراق الذي انتهى بهدم دولته وإعادة تشكيل الدولة والمجتمع المدني وتهديد دول أخرى بمصير مشابه، وهي أمور أثرت في الدراسة ليس بحكم إن الباحث عراقي تحمل نصيبه من معانات الحرب وما أفرزته ظروف الاحتلال، وإنما بما بشرت به من تغيرات أثرت في الدراسة سواء بصراحة لم يكن بالوسع البوح بها أو بمصادر لم يكن استخدامها ممكنا ووجهة نظر لم يكن الإدلاء بها ممكنا في السابق.
إن الأهمية العلمية للدراسة تكمن في كونها محاولة لطرح ماهية ومستقبل العلاقة بين الدولة والتنمية في الوطن العربي على بساط البحث العلمي. وفحص الآثار المحتملة لدور الدولة الماضي والمستقبلي على مسيرة التنمية في الأقطار العربية والمدى الذي يمكن للدولة أن تنجح في تعزيزه أو حتى أن تقصر عنه. بالإضافة إلى محاولة استشراف المستقبلات البديلة للدولة القطرية وتشوف أثر تفاعل العوامل المحددة لمستقبلها على وفق ما رصدته الدراسة.
نحن العرب بحاجة ماسة إلى قراءة معمقة لمضامين الواقع العالمي والمحلي الذي هو بصدد التشكل وفق مضامين التحولات العالمية، ودراسة معطياتها والتعرف على البنى الفكرية ونقدها والارتقاء بذلك إلى مستوى الفهم والتفكير والعمل، ولا بد لهذه القراءة من أن تأخذ بالحسبان المفاهيم الجديدة في المجالات الاقتصادية. فوقوفنا حيث نحن من العالم وواقعنا الذي يعتريه التخلف والاستبداد والانقسام الحاد والتجزئة السياسية لأمر يمكنه أن يضعنا (وقد فعل) في مزيد من الضعف والسلبية إزاء ما يجري في العالم. على العرب أن يفكروا مليا وجديا في ما يمكن اتخاذه لمواجهة واقعهم المتردي وأن يسهموا في تشكيل مستقبلهم وان يعوا ما يبيته لهم الآخر، وما تقصر عنه الذات، وعلى هذا الأساس نرى إننا بحاجة إلى فهم بحاجة إلى بلورة استراتيجية للتنمية وخطة عمل للمستقبل تهدف إلى تعبئة الموارد والإمكانيات وتوجيه السياسات واستخدام المتاح منها في هذه المرحلة والرصد الواقعي والعملي للتحديات المستقبلية.
وفي ضوء تضارب الآراء والتصورات حول الدولة في الوطن العربي ومستقبلها وحدود ما يمكن أن تؤديه لتحقيق التنمية أيا كان مدى ما يتضمنه المفهوم فان المشكلة البارزة هي عدم اليقين بشأن هذا المستقبل وهو جوهر المشكلة التي تحاول الدراسة طرحها عبر توظيف المنهج العلمي في محاولة الاستشراف وصيغها الأكثر احتمالا. على إن بلورة هذه المشكلة لا تغني عن وضع الفرض بل إن وجود الأخير في أية دراسة يسبغ عليها أسلوبا أو منهجا علميا ويرسم معالم الطريق الذي ينبغي أن تسير فيه لإثبات الفرض أو نفيه بما يسهل على الباحث التوصل إلى حل مشكلة الدراسة من خلال المؤشرات العلمية التي تشكل في مجموعها ذلك الحل.
إن التحولات الاقتصادية العربية الراهنة تتبدى تحولات في الاقتصاد السياسي منظورا إليها من جهة الدولة كناظم للعمليات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية في التاريخ العربي الحديث. وهو ما يفرض علينا اعتبار السياسات الاقتصادية للأقطار العربية في الماضي والحاضر والمستقبل وعلاقاتها بالدور الاقتصادي للدولة وبجملة التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية مفتاح لاستقصاء العلاقة الوثيقة بين المجتمع والاقتصاد والسياسة في الوطن العربي. عليه يتكامل منهج الاستشراف مع الاقتصاد السياسي في رسم معالم الصور المستقبلية الأكثر احتمالا عبر بلورة المشاهد (أو السيناريوهات) وصياغة فروضها وتشخيص ما يمكن أن تنتهي إليه دون تنافس بين المنهجين، فأحدهما يخدم الأخر، وكلاهما يخدمان الإجابة عن التساؤل الذي يثيره الكتاب والفرضيات التي تم بلورتها.
في ضوء المشكلة التي يحاول الكتاب مناقشتها عمد الباحث إلى تقسيم الكتاب على بابين يتكون كل منهما من ثلاثة فصول فضلا عن المقدمة والخاتمة التي انتهت بها الدراسة. ركز الباب الأول على الدولة في الوطن العربي من منظور واقعها ودورها في حين انصرف الثاني إلى تحليل مستقبلها، فجاءت فصول الدراسة على النحو الآتي:
ضمن الباب الأول سعى الفصل الأول إلى استعراض مفهوم الدولة وتقديم أهم الرؤى عنه من خلال الاتجاهات العامة في التعريف به. كما اهتم بالتعريف بدور الدولة من وجهة نظر منهجية وفي القسم الثالث والأخير منه استعرض معالم ما أدته الدولة في تجارب النمو والتنمية العالمية بغية استكمال النظر إلى الدولة ودورها في الاقتصاد. واهتم الفصل الثاني بدراسة الدولة في الوطن العربي للتعرف على ابرز الإشكاليات التي تعترض بلورة هذا المفهوم والنظر في السمات أو الخصائص العامة لها وتحليل معالم الأزمة التي تعيشها الدولة ومدى ما يمكن أن ينتج عنها من أزمات تصيب الدولة نفسها والاقتصاد والمجتمع المدني. وبهذا فان الدخول في الفصل الثالث كان لا بد له أن يكون من خلال تقويم دور الدولة القطرية وما حققته وما عجزت عن أن تؤديه رغم أنها وعدت به.
أما في الباب الثاني الذي أشتمل الفصل الرابع منه على التعريف بمنهجية الاستشراف وضروراتها في ما يخص العرب. في حين ركز الفصل الخامس على تحديد وتدقيق أبرز العوامل المحددة لمستقبل الدولة والتنمية في الوطن العربي في حين انصرف الفصل السادس والأخير إلى استشراف ما سيكون عليه مستقبل الدولة عبر تصور المشاهد التي وضعها الباحث وصيغة الإصلاح التي وضعها الباحث كرؤية لما يمكن أن يمنع تدهور الأوضاع المستقبلية للدولة والتنمية من خلال إقامة شراكة متوازنة بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص في ظل مفهوم الحاكمية الذي اعتمدناه كوسيلة للإصلاح وتدنية سمات الدولة القطرية.
إننا لا ندعي تقديم دراسة شاملة لمستقبل الدولة القطرية العربية، ذلك أن مقاربة المستقبل تستلزم من الوسائل والإمكانيات ما لا تتوافر إلا في المؤسسات العلمية الضخمة وبتمويل كبير. ولكننا في مقاربتنا هذه نحاول رسم معالم للمستقبل انطلاقا من موقف عقائدي هو تبني القضايا العربية وانتقاد نمط الدولة في الوطن العربي، استنادا إلى الاتجاهات المعاصرة في الفكر التنموي. والاعتقاد أيضا في أن رؤية المستقبل تتطلب فهم الماضي والحاضر، لان المستقبل سيستبقي حتما أجزاء مهمة وفاعلة منهما. وكون إن الدولة– في ما نرى فيها– هي نتاج للمنطق الذي يسير بموجبه المجتمع، فان المشاهد التي نحن بصدد وضعها هي فهم للحاضر ورؤية للمستقبل في آن واحد. لذا تخرج عملية الاستشراف إلى غاية مهمة لا تستهدف المستقبل لذاته وإنما تستهدف الحاضر أيضا وبنفس القدر.
مما لا شك فيه، أن القراءة النظرية لا تغني عن النظر إلى الواقع، ذلك أن مستوى التجريد العالي الذي يتصف به علم الاقتصاد لا يسمح بالإحاطة الشاملة لكل جوانب القضية المدروسة. ومن جهة أخرى إن القراءات النظرية تفتقر إلى شمول العناصر التي يضمها الواقع، فضلا عن افتقارها الشديد لتضمين العوامل والمتغيرات المستقبلية، فعلى خلفية جملة من الفروض المجهولة على وفق أكثر الدراسات حبكة تتشكل صورة المستقبل. وعلى قدر تعلق الأمر بموضوعنا نقول إن المستقبل وان حاولنا تضمينه عدد كبير من المتغيرات الواضحة فان ما يعد به المستقبل سيكون ربما أكثر تأثيرا منها، ولنا في أحداث 11 أيلول 2001 ما يدعم هذا التصور فمثل هذه الأحداث تحمل في طياتها ما يمكن أن يقلب فروض المستقبل ونتائج مشاهده المحتملة، ويرجح مشهدا لم يكن في حسبان أحد.
ومن الله التوفيق