العولمة ومستقبل الدور الاقتصادي للدولة في العالم الثالث

ولكن ما يميز التغيير الجديد عمق تأثيره، وسعة مداه، وحركته، وشموله العالم كله. والذي يعود إلى الثورة العلمية والتكنولوجية، أو كما يدعوها البعض، الثورة الصناعية الثالثة، التي قربت المسافات بين الأمم والشعوب حتى قيل أن العالم أصبح قرية عالمية، أتاحت الفرصة لظهور تيارات على مستوى عالمي تتجاوز حدود البلد الواحد أو الرقعة الجغرافية الواحدة، وقادت إلى ادعاءات مبالغ فيها بعض الشيء عن نهاية التاريخ كما هو الحال عند فوكوياما. لقد كان انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق بداية لحقبة تاريخية اعتقد فيها البعض إنها انتصار لاقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية ولنمط الحياة الرأسمالية، ومع ارتفاع صيحات العولمة وتهاوي أسس البناء الاشتراكي، وبقاء العالم الثالث في ضياعه، تبرز إشكالية النظر إلى المستقبل لا بوصفه صورة فريدة او قدر محتوم بل باعتباره شيء يمكن الكشف عن بعض خباياه واقتراح بعض البدائل التي تفيد للعمل المستقبلي. لقد عمد الكاتب إلى اختيار الأثر الأكثر أهمية للعولمة على العالم الثالث ونعني به الأثر على مفهوم الدولة ودورها الاقتصادي، ويأتي ذلك تأسيسا على ما يثيره مفهوم الدولة في العالم الثالث من إشكاليات. لقد ظلت الدولة زمنا طويلا، ومن غير منظور، عاملا أساسيا – إن لم يكن العامل الوحيد – القادر على قيادة التنمية وتوجيهها والسيطرة عليها وكان يؤمل من الدولة في العالم الثالث إن تحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وان تعمل على تقليص الفجوة بين مجتمعاتها والمجتمعات المتقدمة. وكانت أهم عواقب هذه النظرة لدور الدولة هو التفاؤل المفرط في قدرتها، ونقاء سريرتها. وقد ظهر جليا في العقدين الاخيرين فساد الرأي القائل بقدرة الدولة على انجاز القفزة الكبرى بالمجتمع والاقتصاد إلى حالة التقدم، فظهر واضحا ان المارد الذي خرج من قمقمه بعد الاستقلال كان عاجزا أن يخرج نفسه من براثن قمقمه القديم. وتفاقمت هذه الأزمة مع ما أفرزته الثورة العلمية والتكنولوجية، وما حكم به المنطق الاقتصادي العالمي الجديد الذي وضع السوق مكان الدولة .وتزامن ذلك مع سيطرة مبادئ السوق الحرة على العالم وحقيقة إن النظام الاقتصادي الدولي أصبح محكوماً بمؤسسات تلبس رداء الدولية وتدّعي الحياد وتبني قضايا العالم الثالث، ولكنها في حقيقة الأمر تتبنى رؤى وتصورات البلدان الرأسمالية المتقدمة، فتدعم بقدرتها تلك البلدان في فرض هيمنتها على اقتصادات العالم الثالث. لقد دأبت هذه المؤسسات على تبني فلسفة السوق وتحرير الدولة من التزاماتها فسعت إلى تشكيل دور الدولة في العالم الثالث بما يتناسب واحتياجات السوق الرأسمالية الدولية ومصالح الشركات متعددة الجنسيات، لا بما يتلاءم واحتياجات مجتمعات العالم الثالث، فلم تنظر برامج بعض هذه المؤسسات إلى طبيعة وسمات الدولة في العالم الثالث بذات القدر الذي نظرت به إلى احتياجات رأس المال الذي يتحين الفرص للانقضاض على الاقتصادات النامية. ان ما يقدمه الكاتب هو محاولة لطرح ماهية ومستقبل العلاقة بين الدولة في العالم الثالث والعولمة على بساط البحث العلمي، والآثار المحتملة للأخيرة على دور الدولة فضلا عن محاولة استشراف المستقبلات البديلة لظاهرة العولمة ارتباطا بأثرها على نمط الدولة في العالم الثالث كمفهوم لم يحظ بالمهلة التاريخية الكافية ليتبلور بشكل تام، مع تأكيد الخروج على الرؤى التي درجت الدراسات الغربية على تبنيها حيال العولمة والدولة. ان العالم الثالث الذي يبدو اليوم غارقا في صنوف التبعية كان وما يزال يعلق الآمال على الدولة، ويرى فيها ممثلا لمصالحه، وراعيا ساهرا على ما يحيق به من مخاطر. أما العولمة التي جاءت جحافلها مع قرب نهاية الألفية الثانية فان دعاتها ومريديها يبشرون بأنها ستحمل بذور التقدم إلى الأرض التي لم تنبت سوى التخلف. هذه الشعارات التي يملؤها الشك اكثر من اليقين في دوافعها وأسبابها وأهدافها وأبعادها وتأثيراتها ومستقبلها وكيفية التعامل معها. ان الفحص الذي يستخدمه البعض لهذه الظاهرة خادع لأنه يركز على التكميمات التي لم يعزف الباحث عن استخدامها فضلا عما يوفره الاقتصاد السياسي من آليات تساعد في حل مشكلة البحث. في ظل موضوعة البحث الأساسية تمتد مشكلة البحث في حقول معرفة مختلفة، فمتغيراتها تقع في نطاق علوم الاقتصاد والاجتماع والإدارة والسياسة. وظاهرة دور الدولة مشكلة لها متغيرات تمتد في مجالات متعددة أيضا. هذه الظاهرة التي تمر الآن بمرحلة انتقالية، وتخضع لعملية إعادة تعريف وهيكلة من دون وضعها في إطارها التاريخي لتأخذ بعدها الحقيقي سيما أن التغير الحاصل في دور الدولة يتم بمباركة قوى خارجية هي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتعد المنهجية حجر الزاوية لإجراء أي بحث علمي فهي ما يميز البحث والباحث وكذا تحدد سماته الأساسية ومحاوره ومرتكزاته ومنطلقاته البحثية. وبالرغم من إن موضوعة الدراسة تقع في نطاق الاقتصاد السياسي Political Economic إلا إن سيل الكتابات المعاصرة- الغربية بالذات – يحاول طرحها خارج هذا العلم. أو ربما في إطار ما يسمى بالمنهج العلمي. ومع انه لا يوجد اعتراض على هذا المنهج، الذي يكتفي بتقرير رسم السياسات المناسبة، إلا انه لا يكفي بحد ذاته فهو لا يقدم فهما معمقا للعمليات التي يتم بموجبها اختيار هذه السياسة أو تلك وتنفيذها. وهذا ما يقدمه الاقتصاد السياسي الذي يبقى علما ضروريا ما دامت العملية السياسية تحكم مدى ومحتوى الفعل الاقتصادي للدولة. وبناءً على ما تقدم فلقد لجأ الباحث إلى استخدام المنهج العلمي – الجدلي في غير موضع، من دون تبني محتواه الأيديولوجي مستعيرا الكثير من مقولاته كمقولة الطبقة مثلا، من دون إهمال موقع الدراسة كدراسة في الأيديولوجيا الاقتصادية التي تشترك مع غيرها من الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية (السيوسيولوجية) والتي تتصل بشكل مباشر بموضوعتي الدولة والعولمة على حد سواء. إن الدولة ترتبط بالاقتصاد والسياسة والمجتمع والوعي…. والعولمة ترتبط بكل هذه العناصر أيضا، لذا فان العلاقة بينهما يكتنفها الكثير من الغموض والشكوك. ولهذا بدا هيكل الدراسة العام تقليديا ومبسطا. وقد يعاب عليه ذلك كما قد يعاب أيضا المساحة الكبيرة للجزء النظري منه ونعني بهذا الجزء الفصلين الأول والثاني، ولكن سعة الموضوعيتين استدعت ذلك كما استدعته ضرورة تقديم تصور لا باس به عن كلتا المقولتين: الدولة والعولمة. إضافة لما تقدم فقد استخدم الباحث منهجي الاستقراء والاستنباط عند إجراء التحليلات وصياغة المشاهد (السيناريوهات). وفي ضوء مشكلة البحث فأننا اعتمدنا المنهجية التالية: الفصل الأول: سعى إلى تقديم إطار نظري عن الدولة في العالم الثالث بمعنى الإجابة عن السؤال «ما هي الدولة في العالم الثالث ؟» ولذلك فهو ينصرف بعد تقديم أهم الرؤى عن الدولة عموما من خلال آراء الفلاسفة والمفكرين على اختلاف مشاربهم، وتباين الحقب الزمنية التي عاشوها. ومن ثم ينطلق إلى عرض أهم الأطروحات عن الدولة في العالم الثالث والوطن العربي بانتقائية خضعت لمعايير أساسية كالأصالة والشيوع والتباين فيما تحمله وتطرحه. كـما ويقدم هذا الفصل الخصائص الأساسية للدول وأخيراً إشكالية دورها. الفصل الثاني: سوف نحاول فيه الإجابة عن الجانب الآخر من مشكلة الكتاب ونبين به ظاهرة العولمة بما تتضمنه من مفاهيم ومؤسسات واليات ومن ثم علاقتها بالدولة عموما .الفصل الثالث: هذا الفصل سوف يكون مكرسا لمناقشة التحول في دور الدولة الاقتصادي. ولذلك سوف يتضمن الملامح الأساسية لبلدان العالم الثالث ومن ثم مكانة دو الدولة فيه، وأخيرا التعرف على حدود دور الدولة في العالم الثالث في ظل العولمة. الفصل الرابع: يشتمل على استشراف لما سوف يكون عليه وضع الدولة في العالم الثالث في ظل العولمة والية الإصلاح التي ينبغي اعتمادها كبديل عن ما تطرحه العولمة من تعديلات في دور الدولة. إن الشكل الأولي لهذا الكتاب كان أطروحة ماجستير موسومة بالعنوان نفسه مقدمة إلى مجلس كلية الإدارة والاقتصاد/ جامعة الكوفة، وقد نوقشت في 10/10/2000 وحازت على تقدير (امتياز). وهنا ينبغي لي أن أتوجه بالشكر والتقدير إلى أستاذي الدكتور مازن عيسى الشيخ راضي الذي تشرفت بقبوله الإشراف على هذه الرسالة كما لا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى جميع من قدم يد العون والمساعدة في انجاز هذا العمل، واخص منهم أفراد عائلتي. ومن الله التوفيق