الأزمـة الآسـيويــة كأحدى إشكاليات النظام الدولي الجديد

منذ 5 سنوات
15037

مازالت الهيئات الدولية والمسؤولون والاقتصاديون في الغرب يكررون إعجابهم بنجاح بلدان جنوب شرق آسيا عموما ، وبلدان النمور ( أوالتنينات ) الآسيوية[1] بشكل خاص ، التي لفتت أنظار العالم في أنموذجها التنموي الذي تسارعت خطى نموه ، فخلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمر هذه التجربة استطاعت بلدان جنوب شرق آسيا ان تحقق معدلات نمو مرتفعة حيث قدر معدل النمو خلال تلك الحقبة ما بين  ( 8-9 ) بالمائة أي حوالي ضعف معدل النمو في البلدان النامية وأكثر من ثلاثة أضعاف مثيله في البلدان المتقدمة . هذه المعدلات هي ما أوصلت دول شرق آسيا إلى مستويات معيشة عالية وظهرت توقعات متفائلة حول إمكانية تجاوز معدلات الدخل الفردي في بعضها مثيلاتها في الدول المتقدمة .

 لقد شهدت بلدان شرق آسيا في صيف عام 1997 أزمة اقتصادية وصفت بأنها من اخطر الأزمات التي تعرض لها العالم في زمن العولمة[2] . وكانت شرارتها الأولى قد انطلقت في تايلاند بهروب واسع النطاق لرؤوس الأموال من الأسواق المحلية ، وامتدت الأزمة لتشمل عددا آخر من البلدان في شرق آسيا مثل إندونيسيا ، ماليزيا ، هونغ كونغ ، سنغافورة ، كوريا الجنوبية ، الفليبين وتايوان . فانهارت أسواق المال ، وهبطت أسعار الصرف ، وتدهورت بشكل فضيع احتياطات هذه الدول من النقد الأجنبي ، وتفاقمت العجوزات في موازين مدفوعاتها ، وكانت النتيجة أن أفلست الكثير من الشركات والمصارف وهبطت معدلات النمو إلى ما دون الصفر واتسع نطاق الأزمة حتى شملت اليابان وعدد من الدول النامية وبعض الدول الاشتراكية السابقة ….

 والسؤال الذي نحاول طرحة والإجابة عليه : ما هي جوانب الخلل التي أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول وهددت بفقدان مكاسب التنمية التي سعت إلى جنيها خلال العقود التنموية الثلاثة ؟ وما هو دور العوامل الخارجية وأعراض الاندماج بالسوق العالمية في تفجير الازمة وتفاقمها ؟

على الرغم من تعدد الإجابات عن هذا التساؤل واختلاف الرأي حول الأسباب الأساسية للأزمة المالية التي تحولت ، وبسرعة شديدة ، إلى ما يمكن وصفه بأنه ” إعصار مالي ” . نقول على رغم ذلك يمكن أن نميز وجهتي نظر مختلفتين :-

 

   ×    وجهة النظر الأولى : تركز على التغيرات الداخلية ضمن إطار الدولة التي تعطي الأولوية لنقاط الضعف الداخلية ، أي المؤسسات والسياسات الحكومية .

   ×    وجهة النظر الـثـانية : تركز على المتغيرات الخارجية وبخاصة حالة الهلع المالي في الأسواق الدولية وما اصطلح على تسميته بهلع المستثمر أو الانسياق بغريزة القطيع Herd Behaviour  .

 

إنه على الرغم من أن أسواق المال العالمية هي من سببت الازمة الآسيوية بشكل مباشر وواسع من خلال تدخلات المضاربين والسحب المفاجئ للأموال أو ما يعرف بهلع المستثمر ، فهي لم تكن العامل المحدد الأساسي ، بل لا بد من وجود عوامل أخرى حتى تسبب الأسواق المالية الأزمة ، فهناك جملة من العوامل ساهمت وهيأت للأزمة الشرق آسيوية نذكر منها :-

 

         ×    النمو بمعدلات مبالغ بها ولمدة تجاوزت العقد وهو ما شكل مصدر قلق للعديد من الباحثين الذين أثارهم التساؤل حول مصدر هذا النمو المرتفع وإمكانية الاستمرار به وتفيد الدراسات المتعلقة بمصادر النمو في هذه الدول باعتماد النمو في هذه الاقتصادات على معدل النمو في عوامل الإنتاج : العمل وراس المال ، وليس في إنتاجيتهما . وعليه فإن الاستمرار في النمو بمعدلات مرتفعة سيكون مرهونا بما تبقى من عوامل الإنتاج والنتيجة إن هذه الاقتصادات واجهت أزمة في الحفاظ على معدلات نموها السابقة عندما بلوغ الاقتصاد مستوى التشغيل الكامل لعوامل الإنتاج .

 

         ×    عجز الحساب الجاري : من خلال تتبع أحداث الأزمة يمكن ملاحظة عجز الحسابات الجارية في كل من : كوريا ، ماليزيا ، الفليبين ، تايلاند ، واندونيسيا ، وهي البلدان التي كانت الأكثر تأثرا بالأزمة ، حيث إعتمدت على الديون قصيرة الأجل لتغطية جزء من عجوزاتها بحيث تجاوزت نسبة الديون قصيرة الأجل الاحتياطي بنسبة 300 بالمائة لكوريا و 150 بالمائة لكل من إندونيسيا وتايلاند ، و50 بالمائة لكل من ماليزيا والفليبين . وبما ان هذه الديون تمتاز بالسيولة العالية فإنها أصبحت مصدر خطر على سياسة الصرف المربوط ، وفرضت على البنوك المركزية الايفاء بالتزاماتها تجاه المستثمرين غير المحليين وباستخدام الاحتياطي من العملات الصعبة لشراء الدين الأجنبي ، وبخلاف ذلك ستفقد الحكومات سمعتها المالية في الأسواق العالمية .

 

         ×    عدم ملائمة السياسات النقدية التي انتهجتها تلك الحكومات للتطورات الملحوظة التي شهدتها اقتصاداتها وذلك من خلال استخدام الطرق المباشرة للتحكم في أدوات السياسة . إذ كان لا بد للسلطات ( بعدما عمدت خلال النصف الثاني من الثمانينات والسنوات الأولى من التسعينات إلى تحرير قطاعاتها المالية والتي يرد من ضمنها التخلي عن فرض سقف على سعر الفائدة والسماح لغير المواطنين بالاستثمار في سوق الأوراق المالية ) أن تتخلى عن الأساليب المباشرة وأن تلجأ إلى ممارسة الأساليب غير المباشرة كعمليات السوق المفتوحة مثلا[3] .

 

         ×    تجاهل متخذي القرار الاقتصادي لإشارات السوق التحذيرية  ، ومن هذه الإشارات تراجع مؤشر سوق الأوراق المالية خلال عام 1996 ، وتزايد الضغوط باتجاه خفض أسعار صرف عملات دول جنوب شرق آسيا .

 

         ×    ان القاسم المشترك فيما بين العوامل أعلاه أنها مرتبطة بدور الدولة وقدرتها على التأثير الإيجابي في الاقتصاد ، ويرتبط بهذه العوامل عامل على قدر عال من الأهمية هو النفوذ الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها على عمليات صناعة القرار في هذه الدول بصورة مباشرة أو غير مباشرة ( عن طريق استخدام صندوق النقد الدولي ) وأيضا تباطؤ الولايات المتحدة في احتواء الأزمة ، ومنعها اليابان وصندوق النقد الدولي من احتوائها .

 

(3) دراما الازمة  ومن جهة أخرى ، نجد البعض يؤكد على وجود نوعين من العوامل وراء الازمة الاسيوية ، الاولى هي عوامل حقيقية تتضمن علاقات مال بانتاج ، والثانية عوامل مالية تتضمن علاقات بين أصول أو ديون مالية كتحويل عملة محلية أو دين بعملة محلية الى عملة أجنبية . ووفقا لهذا الرأي مهدت العوامل الحقيقية للازمة ، أما العوامل المالية فقد فجرتها وحالت دون احتواءها بأقل تكاليف اجتماعية واقتصادية ممكنة ، وساهمت بنشر عدواها الى بقية البلدان الآسيوية المعنية[4] . والواضح ان المصاعب الاقتصادية قد انتقلت من القطاع الحقيقي الى القطاع المالي . ففي تايلاند مثلا أدى تدني الصادرات الى عجز في الحساب الجاري ، حيث استوجب الاخير الاقتراض ، ومن ثم استثمار الاموال المقترضة في قطاعات غير قابلة للبيع ( العقارات ) . وعندما كانت الشركات تواجه مشاكل في التسديد كان ارتفاع معدلات الفائدة يستعمل لاجتذاب المزيد من رؤوس الاموال الخارجية لتمويل العجز . وقد سبب ذلك انخفاضا كبيرا في أسعار العقارات فتفجر الاقتصاد الوهمي .

 

لقد انتقلت عدوى الازمة المالية في تايلاند وبدرجات متفاوتة الى اندونيسيا وكوريا والفليبين وماليزيا ، وفيما  يتعلق بآلية إنتقال العدوى يمكن القول باختصار بأنه كلما كانت نسبة نسبة صادرات دولة ما لناتجها المحلي الاجمالي أكبر ، وكانت درجة إندماج أسواق رأس المال بالنظام الرأسمالي المالي العالمي أو بالاسواق المالية لاقليم معين أعلى ، وذلك نتيجة سماحها بحرية إنتقال رؤوس الاموال ، كانت وتيرة انتقال العدوى اليها من دولة اخرى تعاني أزمة أسرع  وأشد . وتجدر الاشارة الى ان العدوى عبر حـركة التجارة الخارجية ، وبالتحديد عبر إنخفاض الطلب على الاستيراد في دولة الازمة مـن الـدول المعرضة للازمة ، أبطأ بكثير من العدوى الناجمة عن حركة رؤوس الاموال  القصيرة الاجــل .

 

وتتمثل العدوى عبر حركة رؤوس  الاموال في ان المستثمرين الماليين الذين يبيعون سنداتهم أو  اسهمهم أو ودائعهم المقومة بالعملة المحلية بخسارة في سوق دولة (أ) نتيجة الإنخفاض في سعر صرف عملة دولة (أ) يضطرون لكي يسددوا ديونهم الى المصارف الى بيع سنداتهم أو اسهمهم أو ودائعهم في دولة (ب) وبخاصة إذا كانت هناك توقعات بإنخفاض سعر صرف عملة دولة (ب) . وهكذا تنتقل العدوى الى الدولة الاخيرة حتى في حال كون مؤشراتها الاقتصادية الكلية سليمة . وتمثل إنتشار الازمة من تايلاند الى بقية البلدان في نزوح رؤوس الاموال الأجنبية والمحلية منها ، وبخاصة القصيرة الاجل ونتج عن ذ لك انخفاض كبير في اسعار عملاتها تجاه الدولار الامريكي وبنسب مختلفة على الرغم من تدخل مصارفها المركزية بائعة لمبالغ ضخمة من الدولارات للحيلولة دون انخفاض اسعار صرف عملاتها أو للتخفيف من هذا الانخفاض .

 

تبقى قضية الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي وبعض القوى الغربية الاخرى لمنع الكوريين أولا ومن بعدهم اليابانيين من معالجة الازمة المالية قبل تفجرها . فبينما كانت كوريا تحضر للانضمام الى منظمة التنمية والتعاون (OECD ) جعلت الولايات المتحدة عضوية كوريا في هذه المنظمة مشروطة بأنفتاح أكبر لسوق رؤوس الاموال . وفي ظل الضغوطات تحولت قرارات التحرير الصغيرة في الثمانينات الى عملية تحرير كبرى ، وصلت الى حد تفكيك تحكم الدولة بالاقتصاد ، والانحياز لمنطق السوق .

 

لقد جاءت هذه الازمة لتؤكد ما كان يساور الدول النامية من مخاوف  من جراء الاندفاع السريع على طريق التحرير والعولمة . وقد أعرب عدد من قادة الدول النامية عن هذه المخاوف ، لقد حذر محاضير محمد في صيف 1996 من تصديق ادعاءات الدول المتقدمة بأن إزالة الحواجز بين الدول وتحرير إنتقال السلع  والخدمات والاموال عبر الحدود سيفيد الدول الصغيرة والكبيرة ، كما سيفيد الدول الفقيرة والغنية سواء بسواء . وأكد أن هذه العولمة سوف تترك الدول النامية في حالة إنكشاف تام ، مع فقدان القدرة على حماية نفسها ، بعد فقدان استقلالها الذي ناضلت من اجل تحقيقه . كما أكد محمد أن فتح اقتصادات امـام الـواردات الاجنبية يـهدد بانهيار الصناعات القـائمة ، بـــل يـنذر بعملية نفي التصنيع De – Industrization في هذه الدول .

 

من بين ما كشفت عنه هذه الازمة ، أن الدول المعنية بها كانت في المراحل الاولى لتنميتها وحتى وقت قريب ، أي قبل اندفاعها في على طريق تحرير الاقتصاد والاعتماد على أليات السوق والاندماج الشديد في الاقتصاد العالمي ، تعتمد على تدخل الدولة الواسع لانشاء مزايا تنافسية لبعض الصناعات وتمكينها من المنافسة في السوق العالمية ، وكذلك تدخل الدولة للسيطرة على الاسواق وتوظيفها لخدمة التنمية وبناء قواعد وطنية للعلم والتقانة . لكن هذه الدول سارت ومن دون تحفظ ، وبمعدلات مطردة في اتجاه إزالة القيود على الاسواق والتجارة الخارجية ، واندفعت نحو تحرير أسعار الصرف ورفع القيود على التعاملات في العملة الاجنبية ، ومن ثم فتحت أسواقها المالية بلا ضابط أو رابط أمام المضاربات المحمومة على أسعار الصرف . وراحت هذه الدول تندمج في نطاق الاقتصاد العالمي ، وربطت أسواق المال فيها ربطا وثيقا بالأسواق المالية العالمية من دون قيود أو ضوابط للوقاية من تحركات الاموال الساخنة .

 

ان قبو ل هذه الدول اللعب مع الكبار ، وهي ـ على الرغم من إنجازاتها الاقتصادية المبهرة – لم تزل دولا صغيرة ذات اقتصادات محدودة القدرات بالقياس الى الكيانات الاقتصادية العملاقة التي صارت تتحكم بمقادير الاقتصاد العالمي . وكانت تلك مخاطرة عظيمة يبدو أنها لم تتحسب لها جيدا ، وربما لتوهم أنها أصبحت من الكبار ، ورما لشعور مبالغ فيه بالقوة ساعد على إذكائه  بالحديث غير المسؤول عن المعجزات الآسيوية .

 


[1] يطلق هذا تعبير على البلدان حديثة التصنيع أو البلدان الصناعية الجديدة وتشمل بلدان النمور الاسيوية : هونغ كونغ ، تايوان ، سنغافورة ،وكوريا الجنوبية .

[2] انظر : إبراهيم العيسوي ، الغات وأخواتها ، ط3 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2001 ، ص 179

[3] ولا يقف الأمر عند هذا الحد فقد تدفع سياسات التحرير إلى التخلي عن بعض أدوات السياسة النقدية والتي بالإمكان استخدامها في السابق للتأثير على الاقتصاد ومن تلك السياسات  التي اتبعتها دول شرق آسيا سياسات توجيه القروض المصرفية إلى قطاعات معينة ودعم هذه القروض من خلال خفض تكلفة الاقتراض .

[4] انظر :- محمد الاطرش ، حول الازمة الاقتصادية الدولية الراهنة ،مجلة المستقبل العربي ، العدد 244 ، ( حزيران / يوليو 1999 ) ص 9

التصنيفات : المقالات
استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان