عرض كتاب: جون كينيث جالبريت ، تـاريخ الفكر الاقتصـادي: الماضـي صـورة الحـاضـر

منذ 5 سنوات
21899

عرض كتاب: جون كينيث جالبريت ، تـاريخ الفكر الاقتصـادي: الماضـي صـورة الحـاضـر                

                           

 

 

ترجمة: احمد فؤاد بلبع

   تقديم: إسماعيل صبري عبد الله

((الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون  والآداب، أيلول 2000))  350 ص                         

                                          عرض : حسن لطيف كاظم الزبيدي

 

يعد كتاب جالبريث تأريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، واحدا من أهم الكتب في ميدان الفكر الاقتصادي، وكانت قد صدرت طبعته الأولى في بريطانيا عن دار Hamesh    ، ومنذ ذاك طبع أكثر من مرة، وفي أكثر من بلد. كان آخرها عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب بالكويت.

وقبل الخوض في عرض الكتاب المذكور نشير إلى ان مؤلفه ربما يكون غنياً عن التعريف، فهو بحق أبرز الاقتصاديين والمفكرين المعاصرين في العالم. وهو في نتاجه الفكري العام يبتعد إلى غير مجال، فله كتابات متنوعة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والفن والأدب القصصي، كما قد طرح نفسه مجدداً وناقداً ومقوماً للكثير من الاطروحات السابقة كما عرف عنه التزامه الفكري، ودعوته الصريحة لإصلاح المجتمع الرأسمالي في إطار ما قدمه عبر كتاباته من تحليل مسهب للمفاهيم الأيديولوجية المتعلقة بالمجتمع والسياسة والاقتصاد وصلتها جميعاً بالتغيرات في البنى التقنية والتنظيمية الاجتماعية. ولذلك فليس من قبيل المصادفة أن تكتسب نتاجاته وكتاباته أصالة علمية عميقة، وأسهم جالبريث مساهمة نشيطة في إغناء الفكر ومفاهيم كانت من اكتشافاته الشخصية.

ينقسم الكتاب إلى اثنين وعشرين فصلاً ينتقل فيها لا عبر الزمن فحسب و إنما عبر الفكر، فيقفز قيما بينها محدداً نقاط تقاطعها التقائها، فما يمكن ان يكون فكرة هامشية عند شخص ما، يصبح فكرة محورية عند آخر.

هذا الانتقال عبر الفكر مكن الكاتب من تحقيق وتحليل مضمون الفكرة من دون ان يكتفي بمجرد عرض الفكرة، رابطاً بين الأفكار في إطار مقولته الماضي كما الحاضر THE PAST AS THE PRESENT  ، فربما (( مازالت كلمات أرسطو تقرأ في وول ستريت )) ص 28 ، ومن دون ان يكتفي بذلك بل ينتقل من  الفكرة إلى الحدث الذي يشكل تاريخ علم الاقتصاد حيث يشكل لم يكن هناك أفكار.

            ولكن ما الذي يريده جالبريث من كتابه ؟

      انه يسعى  (( إلى النظر إلى علم الاقتصاد باعتباره رؤية للعالم الذي تطورت فيه أفكار اقتصادية محددة … وحيثما لا توجد في الحياة الاقتصادية أمور مشوقة مما يمكن اكتشافه فيها، مثلما، كانت الحال قبل الرأسمالية أو في اقتصاديات الكفاف أيامنا، فإني أتكيف مع هذه الحقيقة. فالأفكار الاقتصادية لا تكون لها أهمية عندما وحيثما لا يوجد اقتصاد )). ص 16 .

          هذا يعني أن الاقتصاد لا يوجد بمعزل عن الحياة الاقتصادية، وان موضوعاته الأساسية التي شغلت بال المفكرين منذ الأزل لم تكن البحث عن نظرية للقيمة وأخرى للأسعار والتوزيع.. بل أن هذه الموضوعات هي ذاتها ما أوصلت علم الاقتصاد الى أوج نضجه مع الاقتصاديين الكلاسيك، وبالذات عند أدم سمث. إذاً فهو يربط تطور علم الاقتصاد بالرأسمالية الصناعية، (( فلم تكن المركنتيلية نظاماً فكريا، و إنما كانت في المقام الأول نتاج عقول رجال الدولة وكبار الموظفين ورجال المال والأعمال في تلك الأيام )) ص 45 . بل أن الفيزيوفراط وأن كانوا جماعة اقتصادية متماسكة ومترابطة بموقف فكري مشترك، كما كنوا (( رجالا جديرين بالاحترام )) ص63  لم يحققوا تلك الخطوة التي خطاها أدم سمث، فعلى يده جاءت البشارة بمولد المجتمع الصناعي الجيد.

ومكن كتابه ثروة الأمم من أن ((يوحي برؤية واضحة للعالم الجديد الذي كان يقف على مشارفه، غير أن  إسهامه الأكبر تمثل في تدمير العالم القديم، و هكذا مهد الطريق نحو ما كان محتوماً أن يجيء )) ص73 .

        و تأسيسا على أهمية  إسهام سمث عنوّن جالبريث الفصلين السادس والسابع ((آدم سمث وعالمه الجديد، استكمال آراء سمث وتأكيدها والاعتراض عليه )). و يحاول في الفصل السابع استعراض عملية بلورة الفكر الاقتصادي للنظام الصناعي من خلال ما قدمه ابرز   مفكري القرن الثامن عشر: ساي ومالتس وريكاردو، الذين شهدوا ما لم يشهده سمث – وبخاصة مالتس وريكاردو – أي الثورة الصناعية  (1780 – 1820) في  كامل ازدهارها، وسعوا الى جعل الفكر الاقتصادي متمشياً مع التغير التقني الحاصل من خلال تحسين آراء سمث.

ويؤثراهم التيارات الفكرية الناشئة عقب موت ريكاردو أذ يرى أن هناك أربعة تيارات رئيسة هي:-

         تيار يحاول أنكار الحقائق التي أنتجتها الفكر البريطاني.

          تيار يحاول إيجاد تبرير اجتماعي وأخلاقي للنظام الكلاسيكي.

          أخر يحاول إدخال تنقيحات في نظرية الأسعار والتوزيع ومحاولة التعبير عنها رياضياً.

          و أخيرا، ومنذ السنوات الوسطى من القرن التاسع عشر كان هناك كارل ماركس.

           ويذهب جالبريث الى أن التيار الكلاسيكي الجديد ممثلاً بكبار مفكريه مارشال فالراس وجيفونز وكلارك هو التيار الرئيسي في علم الاقتصاد فلقد تمكن الأول من الجميع بين الأفكار السابقة في وحدة واحدة. وحاول أو حسب فالراس معالجة مشكلة القيمة حتى نجح جيفونز ومنجر وبعدهما بيتس كلارك من ابتداع مفهوم المنفعة الحديثة.

         غير أن إسهام هؤلاء وغيرهم في دفاعهم عن النظام الكلاسيكي لم يكن ليصمد أمام الانتقادات وتساؤلات كانت تثار تلك الفترة، بل كانت هناك نقاط ضعف وعيوب خطيرة تحتاج إلى دفاع من نوع خاص، فبرزت الحاجة عند نهاية القرن التاسع عشر إلى أدب يكرس مستقلاً للدفاع عن النظام في إطار نظريات اقتصادية تجمع بين التفسير والتبرير. لقد فرضت الحياة الاقتصادية مشكلات اجتماعية خطيرة كان في مقدمتها الفرق الكبير بين الأجور والعمل ومستويات المعيشة التي تتيحها لهم، ومثيلاتها لدى الرأسماليين، فضلا عن التناقض الناشة عن عدم التكافؤ في توزيع السلطة جعلت الحديث عن (عبودية الأجر) أمراً ممكناً وبدت تلك الغيوب جلية في نظرية تحديد السعر والأجر ومع نظرية القيمة والتوزيع كان هناك تضارب مع قانون ساي ذلك أن العرض لم يعد يخلق الطلب ويساويه الناشة عن نقص الطلب. وبالمثل فان الماركسية عقت الحاجة ألي الدفاع عن عيوب الدخل والسلطة وتلك النظريات المتعلقة يعمل النظام الاقتصادي فكانت فكرة التوزيع غير العادل للدخل والثروة استناداً إلى مقولة فائض القيمة والتوزيع غير المتكافئ للسلطة ذلك أن الدولة هي ممثلة الطبقة الرأسمالية والتها كان ذلك مصدر الثورة الماركسية ومحتواها.

         لقد طرحت تبريرات دفاعية عديدة أبرزها ما ذهب إليه جيرمي بينثام والذي ابتدع مفهوم المنفعة، كمل وجدت في أعمال جيمس مل فلسفة المذهب النفعي. واستكملت آرائه بآراء ابنه جون ستيوارت مل الذي صاغ (( النظام الكلاسيكي في صورة جديدة، صورة  اكثر تدبراً و دقة من الصورة التي صاغه بها سمث و ريكاردو )) ص 135 . كما قدم بارتيو دفاعاً  آخر كان نابعاً من نظرته إلى توزيع الدخل الذي يعكس الكفاءة و الموهبة بين الفقراء والأغنياء في النظام الاجتماعي. أما الدفاع الأخير فقد أعفى الاقتصاديين من اي التزام أخلا قي أو اجتماعي، فالاقتصادي ينبغي له –  كعالم – أن يكمم الظواهر و يختزلها الى معادلات رياضية وان يبتعد عن تقديم الحلول الأخلاقية.

        وتحدث جالبريث في الفصل الحادي عشر: الهجمة الكبرى، لا عن ماركس فحسب بل عما تركه من اثر إلى يومنا هذا، فكارل ماركس قد شكل تاريخ العالم من خلال تأسيس وقيادة حركة سياسية تعتبر المصدر الرئيس للتوتر السياسي داخل البلدان وفيما بينها. لكن الأمر الذي يؤشره جالبريث بعدما يستعرض المنظومة الماركسية ومواطن الضعف فيها يرى إن تطور المجتمع الاقتصادي الرأسمالي لم يكن رحيماً بماركس، و أثبتت الدول الصناعية المتقدمة أنها محصنة ضد ثورته. كما إن الإصلاحات التي خدمت مصالح العاملين، وتدابير دولة الرفاهة، وسياسات الاقتصاد الكلي الحكومية، وظهور الشركة المعتمدة على الإدارة والتنظيم، كانت قد هدأت (( الاندفاع الماركسي نحو الثورة بل قضت عليه )) ص155

        ويؤرخ جالبريث مرحلة مهمة في الفكر الاقتصادي تعرض فيها النظام الفكري الكلاسيكي للتشكيك في الولايات المتحدة من قبل قاعدة عريضة من الاقتصاديين تحت وطأة ما يسميه (( القوة الرئيسية  للكساد الكبير )) عندما ظهر جليا افتقار هذا النظام لنظرية عن حالات الكساد. مع ذلك فإنه لم يغفل التعارضات الناشئة بين مؤيدي الخروج عن الإطار الكلاسيكي، بحيث شكلت محاولات الفريق الأول رفع الأسعار أو توفير فرص العمل كتدابير طارئة كانت موضوعة الجدل الرئيسة في ثلاثينات القرن العشرين في الولايات المتحدة. ومع ذلك أتاحت دولة الرفاهة التي ترجع أولوية ظهورها في أوروبا على يد بسمارك عندما اعتمد الرايشتاج تشريعات توفر بشكل أولى تأمينا ًضد الحوادث والمرض والشيخوخة. و بعد ربع قرن قامت بريطانيا إجراء مماثل بسبب تعاظم نفوذ النقابات وتأثير الحركة الفابية . وتوجت القضية بكتاب بيجو (( اقتصاديات الرفاهة ، 1920 ))، موفرا مخرجا لمعارضة الموقف الأرثوذكسي الرئيس ضد إعادة التوزيع، فأدعى بيجو إن الرفاهة الاقتصادية يمكن تعزيزها بتحويل الموارد المتاحة  ( القابلة للأنفاق ) من الأغنياء إلى الفقراء، ما دام الإنتاج الكل ي لا ينخفض بسبب هذا الأجراء.

        ويستمر جالبريث في التقليل من شأن كينز فسياسات الاقتصاد الكلي الرافعة للطلب كانت تطبق في ستوكهولم. ومن الفكر السويدي تسربت التطورات في النظرية الكلية الى بريطانيا والولايات المتحدة، كما خرج بعض الاقتصاديين في الولايات المتحدة عن المألوف عندما دعوا إلى التدخل لدعم الطلب وتعزيزه، بل كان هناك فيها تطبيق عملي لما اصبح وصفة كينز. ويخلص جالبريث إلى أن قبول (( النظرية العامة )) لم يكن راجعاً إلى عجز الاقتصاد الكلاسيكي في التعامل مع الكساد الكبير، بل كان راجعاً إلى قوة حجة كينز في شؤون الاقتصاد وسلامة تحليله، وما يوحي به عمله من أصالة، وبجه خاص ثقته بنفسه.

        لكن الكلاسيكية لم تكن لتندحر مع نشر كتاب النظرية العامة فظهرت نزعات رفض الكينزية بين الاقتصاديين ممن يمكن تسميتهم باللبراليين الجدد. لكن ظروف الحرب العالمية قوضت هذه الحركة وفرضت الحرب أثاراً جوهرية في النظام الكينزي. ودفعت بالاقتصاديين إلى موقع القوة في صنع السياسية الاقتصادية، كما ساهمت الحرب في ترويج معتقدات كينز فسارت الحرب مع أفكاره في مظاهرة تأييد لا مثيل لها.

       ومن جديد ظهرت الدعوى للتمسك بالارث الكلاسيكي والعودة إلى الأول على يد البريطاني فون هايك وبصورة متزايدة على يد فريدمان، فبدا وكان الكلاسيكية قد أفاقت من الضربة القوية التي سددتها الحرب للرفض الكلاسيكي للتدخل الحكومي. و مثلما خدمت الحرب كينز خدمت ظروف التضخم فريدمان. ((  وبذلك طويت صفحة الثورة الكنزية. مما تاريخ علم الاقتصاد تراجع عصر جون مينا رد كينز أمام عصر ميلتون فريدمان )) ص304.

        وبعد أن ينهي جالبريث روايته للفكر الاقتصادي  يقف بنا  على حدود الحاضر ليستشرف مستقبل علم الاقتصاد ومقولته الأساسية في هذا (( الحاضر صورة المستقبل )) مثلما كان الماضي صورة الحاضر، وما دام المستقبل سيحمل جزءاً من الحاضر، و الحاضر والماضي سيكونان جزءاً من التاريخ.

        على ما يبدو أن نظرة  جالبريث هذه نابعة من رؤيته للتاريخ بشكل عام وتاريخ الفكر بشكل خاص. انه لا ينظر ألي حركة التاريخ على أنها خطية أو آلية، فالتاريخ لا يتحرك من الحاضر أو الماضي حسب، وإنما من المستقبل أيضاً، بمعنى انه لا يتحرك مما هو قائم بل مما هو قادم. ومن ثم فإن التاريخ يتحرك حركة لولبية تنطوي على حركتين ألي الأمام والى الخلف. هذه النظرة العميقة هي ما تفسر الأهمية النسبية لمهمة الاستشراف عند جالبريث.

          وعندما يقيم لنا مستقبل علم الاقتصاد  يستنتج أن هذا المستقبل سيكون في صالح التراث الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، طالما أن التراث بات جزءاً من المعتقدات الراسخة عند الكثيرين، كما أن قوة المصلحة الاقتصادية أو الديالكتيك الداخلي بين المؤسسة الاقتصادية والدولة، فالدولة تواجه تراجعاً في وظائفها لصالح المؤسسة الخاصة هذا التراجع يستدعي تبريره نظرياً، هو الأمر الذي لا يمكن لغير السوق الكلاسيكية أن تقدمه، فالاقتصاد الكلاسيكي وحده القادر على حل المشكلة القائمة بين الاقتصاد والسياسة في موضوعة السلطة، التي تبقى خاضعة للسوق طبقاً للفهم الكلاسيكي، السوق هو المحدد الكفؤ للأجور والأسعار.

 

         من دون أن يعني هذا حديثاً عن مستويات التحليل – جزئية كانت أم كلية – فالتمييز بين المستويين سيختفي في المستقبل مع أفول نجم الكينزية،  مع  ذلك سيظل الشاغل الجوهري هو العلاقة المتبادلة بين السياسة النقدية والمالية المحلية والوضع الدولي للبلد.

التصنيفات : المقالات
استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان