نحو تقرير وطني للتنمية البشرية في العراق: بناء الإنسان.. بناء العراق 2006

نحو تقرير وطني للتنمية البشرية في العراق: بناء الإنسان.. بناء العراق
بقلم : د. حسن لطيف كاظم الزبيدي
تعد التنمية عملية مركبة ومحصلة لتفاعل جميع العناصر المرتبطة بحركة المجتمع، تهدف إلى إحداث تغيرات كمية ونوعية على حياة الناس في حقبة زمنية معينة. وقد توسع مفهوم التنمية لينتقل من مجرد التركيز على النمو الاقتصادي، إلى اعتباره جزءً من عملية التنمية المستمرة والمستدامة. وفي هذا الإطار باتت التنمية البشرية عبارة عن صيرورة تؤدي إلى توسيع الخيارات أمام الناس، فهي تضع البشر في صميم عملية التنمية من خلال جعلهم هدفها وموضوعها وطبقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي فان التنمية البشرية تدعو إلى حماية الخيارات الإنسانية لأجيال المستقبل والأجيال الحاضرة وتشمل هذه الخيارات الحياة الطويلة والصحية واكتساب المعرفة والتمكن من الموارد الضرورية للتمتع بمستوى عيش مناسب، يضاف إلى ذلك الحرية السياسية والتمتع بحقوق الإنسان واحترام الذات. وبهذا فمفهوم التنمية البشرية يجمع بين القدرة وتنميتها واستعمالها، ويتجاوز المفاهيم التقليدية كرأس المال البشري وإشباع الحاجات الأساسية، والموارد البشرية..الخ.
إن العراقيين اليوم يخوضون تجربة، ولا أجازف أن قلت أنها فريدة، فهم يكتبون لأول مرة وثيقة تحلل وتنظر وتتأمل وتتشوف في واقعهم وتطلعاتهم وآمالهم ومستقبلهم دون ضغوط إلا من التسابق نحو الإبداع والرغبة في التميز والحرص على إشاعة وتعميم النفع من هذه الوثيقة. وهنا أتأمل في ما ينبغي للتقرير أن يتناوله وما آمل أن يشتمل عليه، وهي تأملات مني كعراقي… دون أية إضافة..
المنطلقات
ينبغي أن ينطلق تقرير التنمية الوطني من قناعة راسخة بان السعي لتحقيق التنمية البشرية المستدامة هو المفتاح لبناء العراق. ذلك أن تحقيق التنمية التي تأخذ بعين الاعتبار فرادة الواقع العراقي وظروفه المعقدة هي حق لا يمكن المساومة عليه، وشرط مسبق لإعادة الاعتبار للإنسان ومقدمة لبناء واعمار العراق. على أن تحقيق التنمية لا بد أن يكون في إطار العيش الكريم والآمن والحر والمستقر في ظل دولة ديمقراطية تمتلك القدرة والكفاءة على قيادة العملية التنموية وتسمح بمشاركة القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني وتحسن التعامل مع المؤسسات الدولية، وتتبنى فلسفة التنمية البشرية.
كما ينبغي للتقرير أن يكون عامل وحدة، وان تكون عملية التقرير كذلك، بمعنى أن تبحث في المشترك بين العراقيين، وتقارن في ما يجمعهم تحت سماء هذا البلد منذ آلاف السنين. وحتى وان عصفت بهم ريح أو نزلت بهم نازلة ، فانهم كانوا في كل مرة يثبتون أنهم أكثر تمسكا بعراقيتهم ووحدتهم ومصيرهم الذي بات مشتركا أكثر من أي وقت مضى.
لماذا تقرير التنمية البشرية الوطني ؟
يمثل التقرير جزءً من مشروع متكامل يتضمن أبعاداً عدة لدعم ومناصرة التنمية البشرية وتعزيز الحكم الصالح في العراق. ويصدر تقرير التنمية الوطني في العراق في ظل أوضاع تتسم بالدقة على صعيد بناء وتشكيل الدولة العراقية، حيث بدأت معالم صناعة مؤسسات الدولة بعد تجاوز ثلاث سنين اختلطت فيها دماء العراقيين من جميع الأطياف والقوميات والمذاهب والأديان. وقد اثبت العراقيون أنهم على قدر التحدي عندما تحدوا ظروفهم الصعبة وواقعهم المر ليشاركوا في الانتخابات والاستفتاء على الدستور الدائم ثم انتخابات مجلس النواب ويثبتوا أنهم ساعون إلى الديمقراطية بخطى ثابتة.
إن التقرير يعد وثيقة تاريخية مهمة تؤرخ لحظة مهمة في حياة الشعب العراقي حيث يعاد تعريف الكثير من المفاهيم، ويصار إلى بناء مختلف المؤسسات، في ظل أجواء تمتاز بالخطورة والسيولة. كما أن التقرير يحاول مراكمة المعرفة التنموية المبنية على إعادة الاعتبار للإنسان وإثراء ذاكرة الإنسان بمفاهيم جديدة عن الحرية والديمقراطية والمشاركة. ويطمح التقرير أن يمارس دوراً واعظاً ومحذراً من مخاطر الانزلاق إلى الماضي والتدهور في الصراع عليه بدل التطلع إلى المستقبل التسابق اليه، وتشجيع السياسات التنموية التي يمكن من خلالها للعراقيين أن يوحدوا جهودهم في بناء وطنهم الذي أنهكته سنون عجاف.
إننا نريد عبر هذا التقرير حث العراقيين على التمسك بوحدتهم الوطنية، والاستعداد لبناء الدولة العراقية الجديدة على أسس متوازنة تجمع بين الإنصاف والمشاركة وتعزيز الحريات وتوسيع الخيارات الجماعية إلى أفاق رحبة لا تقف عند الحق في التنمية المستدامة والمستقلة. وأن يسعى تقرير التنمية الوطني إلى حث العراقيين على الوعي بالتحديات التي تواجه التنمية في البلد، والتمسك بوحدة العراق، والتضامن بين أبناء هذا الوطن.
كما تعتبر عملية التقرير مقدمة لنشاطات ودراسات أخرى في مجالات التنمية البشرية المختلفة. فإحدى الغايات الرئيسة للتقرير هي استشراف وتشوف أوضاع التنمية البشرية في المستقبل، ولفت أنظار صانعي السياسات والقرارات الاقتصادية إلى ضرورة التأثير الايجابي والفاعل في هذا المستقبل. وهو أمر يستلزم الوعي بالحاضر والتعرف على مشكلاته وحجم التحديات التي تعتمل فيه ومن ثم التعرف على العناصر أو المحددات التي تساهم حركتها في تشكيل حركة المستقبل.
التقرير والمشاركة
تؤدي النقاشات حول التقرير إلى تنشيط قطاعات مهمة من القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات الحكومية وغير الحكومية التي ترغب في الانغماس في النقاش وإبداء الملاحظة والمشاركة في ورش العمل والندوات المعقودة، الأمر الذي يساهم – إلى حد كبير- في إشاعة المفهوم. فيعبر ذلك عن حالة معرفية تكشف عن غنى هذا المجتمع ورغبته في التغيير الايجابي واعتناق مفاهيم الحرية والعدل والمساواة التي تتبناها التنمية البشرية. فالتقرير وعملية إعداده توفر مناسبة للحوار والتناقش التقارب في الرؤى والأفكار تجمعها الرغبة الصادقة في إنجاز هذه الوثيقة وتعميم الفائدة منها وطرحها للجمهور لتكون جزءً من مشروع التغيير نحو عراقي ديمقراطي يعيش الجميع في بسلام وتعايش. كما يسهم في التعرف على المشكلات التي تختبر العراقيين وتضغط في اتجاهات شتى بما يبعدهم عن مسيرة البناء التي نطمح إن يشكل عملية التقرير بوصلة لمشروع الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي.
التطلع إلى التقرير
إننا إذ نتطلع إلى التقرير الوطني العراقي فإننا نأمل أن يساهم في توحيد الكلمة وتعزيز المشتركات بين أبناء هذا الوطن، ويعكس هموم وتطلعات هذا المجتمع. كما ينبغي له أن لا يخلو من الجرأة والصراحة والشفافية في الطرح بعيدا عن تبني منهج التعصب لفكرة أو طائفة أو مذهب أو قومية.
مما لا شك فيه أن العمل في إعداد تقرير التنمية البشرية يشكل فرصة وتحد، فهو فرصة للبحث في الذات العراقية، ومحاولة لتشوف المستقبل المشترك للعراقيين بأعينهم، وتعرّف الأمل في عيونهم. وهو تحد لأنه كان ينطوي أيضا على انغماس في واقع مؤلم ومر بغية فهم أبعاده وسبر أغواره، والخروج برؤية شاملة لهذا الواقع، رؤية لكل العراقيين على اختلافهم، ورؤية تجمعهم على الوعد بالتنمية البشرية المستدامة التي تمهد لإعادة الاعتبار للإنسان العراقي الذي أنهكته عقود طويلة من الحرمان في ظل الطفو على ثروة لم تجلب إليه إلا مزيداً من الدم والدمار، فكان يسدد ثمن موت آلاف أبنائه من ثروته.