التنمية البشرية والأمن الانساني في العراق: جدل التبديد والتهديد
الخلاصة
يشترك مفهومي التنمية البشرية والأمن الانساني في أن الفرد هو وحدة التحليل الاساسية فيهما، بحيث يصبح محور التنمية وغايتها تحقيق الامن بأبعاده الاقتصادية والسياسية والأمنية. فهما مكملان لبعضهما البعض من خلال سعيهما الى تحقيق الاهداف نفسها، لكنهما يختلفان من ناحية الكيفية التي يمكن بها تحقيق تلك الاهداف، فالتنمية البشرية تركز على توفير الاحتياجات الاساسية وتوسيع الخيارات، بينما يركز مفهوم الامن الانساني على الاصلاح المؤسسي وإيجاد المؤسسات القادرة على صون امن الافراد وجعلهم قادرين على التعامل مع الاخطار التي تهدد أمنهم.
لقد عرف أول تقرير للتنمية البشرية عام 1990 الصادر عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة بأنها «عملية توسيع الخيارات أمام الناس». وتتمثل هذه الخيارات في أن يعيش الناس حياة مديدة وصحية، وأن يكونوا متعلمين ويتمتعوا بمستوى معيشي لائق. وخيارات اضافية أخرى تشمل الحرية السياسية وحقوق الإنسان المكفولة واحترام الانسان لذاته. ويذهب محبوب الحق الى القول بأنه «مصطلح يهدف الى زيادة فرص الاختيار، وما الدخل إلا واحداً من هذه الفرص، وليس كل ما تنطوي عليه الحياة الانسانية، فهو يعني: تنمية الناس، من أجل الناس، بواسطة الناس أنفسهم». وبالتالي فإنّ مفهوم التنمية البشرية هو مفهوم واسع وشامل. وهو يغطي جميع الخيارات في جميع المجتمعات البشرية وفي جميع مراحل التنمية. فإنه يوسع حوار التنمية من مجرد مناقشة الوسائل لمناقشة الغايات النهائية. كما يتعلق بتوليد النمو الاقتصادي كما هو الحال بالنسبة لتوزيعه، كما يُعنى بالاحتياجات الأساسية كما هو الحال مع طائفة شاملة من تطلعات البشر. اذ ان مفهوم التنمية البشرية ينسج التنمية حول الناس وليس الناس حول التنمية.
يتضح من خلال ما سبق بأنّ نهج التنمية البشرية قد استوعب متغيرات كثيرة وما زال هناك الكثير، وفقاً لأهم التطورات والتحولات التي تؤثر في سيرورة العملية التنموية، وبما يُسهم في نجاح تلك العملية بجميع أبعادها، وبذلك يتمتع نهج التنمية البشرية بمرونة كبيرة ومتجدد دائماً.
أما فيما يتعلق بالأمن الإنساني فهو الاخر يتخذ من الفرد وحدته الاساسية، في مقابل مفهوم الامن القومي الذي يتخذ من الدولة وحدته الاساسية في التحليل، والذي كان سائدا في حقبة طويلة امتدت ما بين استقرار نظام الامن الذي قام على المفاهيم الويستفالية وحتى نهاية الحرب الباردة، ليحل محله مفهوم الامن الانساني الذي يعكس تبدل الانشغال الامني من النظرة العسكرية البحتة الى توسعته في اتجاهين:
§ الاتجاه الاول، إضافة الابعاد الدولية والإقليمية والفردية للأمن.
§ الاتجاه الثاني، اضافة الانشغالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
وبهذا المعنى أصبح الامن مفهوما استراتيجيا يبحث في القضايا الجديدة التي تؤثر في أمن الافراد والدول، في ظل مراجعة الافتراضات التقليدية التي كانت سائدة في ظل مفهوم الامن القومي.
ويعكس تطور مفهوم الأمن الانساني التبدلات الجذرية التي توالت منذ انهيار المنظومة الاشتراكية وتعالي صيحات العولمة مدفوعة بالتطور التكنولوجي الهائل وبخاصة في مجال الاتصال والمعلوماتية، الامر الذي أفرز تهديدات لم تكن معروفة من قبل، وفاقم أخرى كان شأنها قليلا. وفي ظل البيئة الامنية المعولمة أصبحت الدولة محاطة بمجموعة كبيرة من التهديدات الداخلية والخارجية، لعل في مقدمتها الارهاب والصراعات الداخلية والمجاعات والأزمات الاقتصادية والتغير المناخي وانتشار الاوبئة والأمراض والمخدرات. وقد جاء بروز مفهوم الامن الانساني «في محاولة لإدماج البعد الانساني في الدراسات الامنية، إذ ان جوهر مفهوم الامن الانساني هو التركيز على أمن الافراد داخل وعبر الحدود بدلا من التركيز على أمن الحدود ذاته».
ورغم الحاح قضايا الامن الانساني في التسعينات من القرن الماضي ونتائج العقوبات والتدخل الخارجي في الشأن العراقي الذي جاء بفعل تطبيق نظرية التدخل الانساني، إلا أن الدراسات الوطنية لم تتناول هذا المفهوم، بل استمرت تركز على مقولة الامن القومي التقليدية، ولم يشهد البلد نقاشا جادا حول الموضوع إلا بعد عام 2003. لذا يكتسي مفهوم الامن الانساني بخصوصية لافتة في العراق، تأسيسا على كونه يمر بمرحلة انتقالية يجري فيها اعادة تعريف عدد كبير من المفاهيم وبخاصة تلك التي ترتبط بعلاقة الفرد بالدولة في اطار الانتقال الديمقراطي. لذا فان تركيز النقاش حول مفهوم الامن الانساني جاء بعدما تمكن تقرير التنمية البشرية الوطني لعام 2008 من لفت الانتباه لأهمية الامن وأثره الكبير في تهديد مكاسب التنمية في العراق.
ركز تقرير التنمية الوطني لحال التنمية البشرية (2008) على تحدي الامن الانساني إذ يشير التقرير الى «أنه اذا كان محور التنمية البشرية هو الانسان وتوسيع خياراته من أجل حياة تحقق القيم التي يرغب فيها، فإن امن الانسان يكتشف الظروف التي تهدد البقاء وإدامة الحياة والكرامة الانسانية، كالفقر والمرض والتدهور البيئي.. الخ»، لان «أمن الانسان هو الضامن لاستمرارية التنمية البشرية، وهو شرط مسبق لها، ومحدد لأولويات أهدافها العاجلة».
طبقا لمؤشر الارهاب العالمي (2012) الذي تصدره مؤسسة الاقتصاد والسلام ومقرها في الولايات المتحدة فقد احتل العراق المرتبة الاولى يليه باكستان وأفغانستان فالهند واليمن والصومال.
وانطلاقاً مما سبق أصبح من الجدير بالاهتمام قياس الأثر الذي تتركه أعمال العنف والإرهاب على سيرورة التنمية البشرية، فهل ان الإرهاب وما ينجم عن العمليات الإرهابية من جرحى وقتلى يؤثر في مؤشرات التنمية البشرية؟ وكيف أثر؟ وما هو حجم ذلك التأثير؟ وما هي أكثر المؤشرات تأثراً بالإرهاب بشكل أكبر من غيرها؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها، لمعرفة امكانية ايجاد الترابط الإحصائي بين الإرهاب والعنف من جهة، ومن تراجع في مؤشرات التنمية البشرية والأمن الانساني من جهة أخرى. من خلال التركيز على انتهاك الامن الانساني بسبب الارهاب ومناقشة أبعاده السبعة وهي: الأمن الاقتصادي، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن البيئي، الأمن الشخصي، أمن المجتمع، الأمن السياسي.
وينتهي البحث الى طرح الاليات التي يتحقق الامن الانساني عبرها وهي:
الحماية من التهديد: اذ تمثل الالية الاولى كونها تمكن من مواجهة التهديدات والأخطار التي تحيق بالأفراد، وهو ما يستلزم العمل على تدعيم المؤسسات المعنية بتوفير هذه الحماية على المستوى الوطني، وأن تؤمن عملية استباق التهديد وحماية الافراد منه.
التمكين: أي القوة لإنجاز شيء ما بدل مفهوم القوة السائد. والتمكين يهدف لخلق الظروف التي تساعد الناس أن يوجهوا احتياجاتهم اليومية والمستقبلية.